التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب القبلة للصائم

          ░24▒ بَابُ: القُبْلَةِ لِلصَّائِمِ.
          1928- ذَكَرَ فيه حديثَ عائشةَ قَالَتْ: (إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_ لَيُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وهو صَائِمٌ) ثُمَّ ضَحِكَتْ.
          1929- وحديثَ أُمِّ سَلَمة قَالَتْ: (بَيْنَمَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ _صلعم_ فِي الخَمِيلَةِ، إِذْ حِضْتُ فَانْسَلَلْتُ، فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي...) الحديث، وسلف في الحيض [خ¦322]. زاد هنا: (وَكَانَتْ هِيَ وَرَسُولُ اللهِ _صلعم_ يَغْتَسِلاَنِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ). (وَكَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ).
          وحديثُ عائشة أخرجه مسلمٌ، وفي رواية له: ((كَانَ يُقَبِّلُنِي وهو صَائِمٌ، وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كما كَانَ يَمْلِكُ إِرْبَهُ؟)) وانفرد بإخراجه مِنْ طريق حفصةَ، قَالَ ابْنُ المنذِرِ: اختلفَ العلماء في القُبلة للصَّائم، فرخَّص فيها جماعةٌ، رُوي ذلك عن عمر وأبي هُريرةَ وابن عبَّاس وعائشةَ، وبه قَالَ عطاءٌ والشَّعْبيُّ والحسنُ، وهو قول أحمدَ وإسحاقَ، وَقَالَ القاضي عِياضٌ: أباحها جماعة مِنَ الصَّحابة والتَّابعين. وهو قولُ أبي ثورٍ وداودَ والصَّحيحُ عن أحمدَ، وهو مذهبُ سعدِ بن أبي وقَّاصٍ.
          زاد ابنُ أبي شَيْبَةَ: وعليِّ بن أبي طالبٍ وعِكْرِمةَ وأبي سَلَمَةَ بنِ عبد الرَّحمن ومسروقِ بن الأجدعِ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إنْ قبَّل فأمنى أفطرَ بلا خلافٍ، فإن أمذى أفطرَ عندنا وعند مالكٍ، وَقَالَ أبو حَنِيْفَةَ والشَّافعيُّ: لا يفطر، رُوي ذلك عَنِ الْحَسَنِ والشَّعْبيِّ والأَوزاعيِّ، قَالَ ابْنُ مسعودٍ: إن قبَّل وهو صائمٌ صَامَ يومًا مكانَه، وَقَالَ الثَّوريُّ: هذا لا يُؤخذ به، وكرِهَها ابنُ عمر للصَّائم ونهى عنها، وَقَالَ عروةُ: لم أرَها للصَّائم تدعو إلى خيرٍ، وذَكر الطَّحاويُّ عن شُعْبَةَ عن عِمْرانَ بن مسلمٍ عن زاذانَ عن عمرَ بن الخطَّابِ لَأن أعَضَّ على جمرةٍ أحبُّ إليَّ مِنْ أن أقبِّل وأنا صائمٌ، وروى الثَّوريُّ عن عِمرانَ بن مسلمٍ عن زاذانَ عن ابن عمرَ مثلَه.
          وذَكر عن سعيدِ بن المسيِّب قال: الَّذِي يقبِّل امرأتَه وهو صائمٌ ينقُضُ صومَه، وكرِهَها مالكٌ للشَّيخ والشَّابِّ، كما سلف، وأخذ بقولِ ابن عمر، وأباحَها فرقة للشَّيخ، وحظرها للشَّابِّ، رُوي ذلك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ورواه مُوَرِّقٌ عَنِ ابْنِ عمرَ، وهو قول أبي حَنِيْفَةَ والثَّوريِّ والأَوزاعيِّ والشَّافعيِّ.
          قلتُ: المرجَّح عندنا أنَّها محرَّمة على مَنْ حرَّكت شهوتَه، والأَولى لغيره تركُها، وفي «شرح الهداية»: لا بأسَ بالقُبلة والمعانَقة إذا أَمِنَ على نفسه، أو كَانَ شيخًا كبيرًا، ويُكره له مسُّ فرجِها، وعن أبي حَنِيْفَةَ: تُكْرَهُ المعانَقةُ والمصافَحةُ والمباشرةُ الفاحشةُ بلا ثوبٍ، ويمسَّ ظاهرُ فرجِه ظاهرَ فرجِها، والتقبيلُ الفاحشُ مكروهٌ، وهو أن يمضغ شفتَها، وكذا قاله محمَّد.
          قال الطَّحاويُّ: فأمَّا مَا رُوي عَنِ ابْنِ مسعودٍ فقد رُوي عنه خلافُه، روى إسرائيلُ عن طارقٍ عن حكيمٍ عن جابرٍ عَنِ ابْنِ مسعودٍ أنَّه كَانَ يباشرُ امرأتَه وهو صائمٌ، وما ذكروه مِنْ قول سعيدٍ أنَّه ينقضُ صومَه، فإنَّ مَا رُوي عن رسول الله _صلعم_ أنَّه كَانَ يقبِّل وهو صائمٌ أَولى مِنْ قول سعيد، فإن ادَّعى أنَّه مِنْ خصائص نبيِّنا لملكه إربَه، فإنَّما قالته عائشة؛ لانتفاء الأمن علينا، بخلافه لأنَّه محفوظٌ، والدَّليل على أنَّ القبلة عندها لا تفطِّر مَا قد رُوِّيناه عنها أنَّها قالت: ((ربَّما قبَّلني رسول الله _صلعم_ وباشرني وهو صائم، وأمَّا أنتم فلا بأسَ للشَّيخ الكبير الضَّعيف)) أرادت به أنَّه لا يخاف مِنْ إِربه، فدلَّ ذلك أنَّ مَنْ لم يخف مِنَ القبلة شيئًا وأمنَ على نفسه أنَّها له مباحةٌ.
          وقالت مرَّةً أُخْرَى حين سُئلت عنها للصَّائم جوابًا لذلك: ((كَانَ _صلعم_ يُقَبِّلُ وهو صَائِمٌ)) فلو كَانَ حكمُه عندها خاصًّا به لما كَانَ مَا علمَتْه مِنْ فعلِه جوابًا لما سُئلتْ عنه مِنْ فعلِ غيره، يبيِّن ذلك مَا رواه مالكٌ عن زيدِ بن أسلمَ عن عطاءِ بن يَسارٍ أَنَّ رَجُلًا قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وهو صَائِمٌ، فَوَجَدَ مِنْ ذلك وَجْدًا شَدِيدًا، فَأَرْسَلَ امْرَأَتَهُ تَسْأَلُ لَهُ عَنْ ذلِكَ، فَدَخَلَتْ على أُمِّ سَلَمَةَ أمِّ المؤمنين فَذَكَرَتْ ذلك لَهَا، فَأَخْبَرَتْهَا أنَّهُ _صلعم_ كَانَ يُقَبِّلُ وهو صَائِمٌ، فَرَجَعَتْ فَأَخْبَرته فَزَادَهُ شَرًّا، وَقَالَ: لَسْنَا مِثْلَ رَسُولِ اللهِ _صلعم_ / يُحِلُّ اللهُ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ، فَرَجَعت الَمَرْأَةُ إلى أُمِّ سَلَمَةَ، فَوَجَدَتْ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ فَقَالَ: ((وَاللهِ إِنِّي لأَتْقَاكُمْ للهِ، وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ)) فدلَّ هذا على استواء حكمه وأمَّته فيها إذا لم يكن معها الخوفُ على مَا بعدها مِمَّا تدعو إليه، ولهذا المعنى كَرِهَها مَنْ كَرِهَها، وقال: لا أراها تدعو إلى خير، يريد إذا لم يأمن على نفسه، ليس لأنَّها حرامٌ عليه، ولكنْ لا يأمن إذا فعلَها أن تغلبَه شهوتُه حتَّى يقعَ فيما يحرُم عليه، فإذا ارتفع هذا المعنى كانت مباحةً، وَقَالَ الشَّافعيُّ وأبو حَنِيْفَةَ والثَّوريُّ والأَوزاعيُّ: إنَّ مَنْ قبَّل فأمْذَى فلا قضاءَ عليه، وقد أسلفناه، وإنْ نَظر فأمنى لم يبطُلْ صومُه، وإن قبَّل أو لمس فأمنى أفطرَ ولا كفَّارة عليه؛ لأنَّها إنَّما تجب بالإيلاج، وَقَالَ مالكٌ: إن قبَّل فأنزل فعليه القضاء والكفَّارة وكذلك إن نظر وتابَع؛ لأنَّ الإنزالَ هو المبتغى مِنَ الجماع سواءٌ كَانَ بإيلاجٍ أو غيره، فإن قبَّل فأمذى أو نظرَ فأمذى فعليه القضاءُ ولا كفَّارةَ عليه.
          تنبيهاتٌ: أحدُها مَا أسلفناه عَنِ ابْنِ مسعودٍ وسعيدِ بن المسيِّب أنَّه يقضي مكانَ مَا قَبَّل، ذكره ابنُ أبي شَيْبَةَ أيضًا عن شُرَيْحٍ وإبراهيمَ النَّخَعيِّ وابنِ مَعْقِلٍ والشَّعْبيِّ وأبي قِلَابَةَ ومحمَّدِ بن الحنفيَّةِ ومسروقِ بن الأجدعِ وعمرَ، ويحتمل أن يكون عمرَ يرى جوازَه، فَلَمَّا رأى رسولَ الله _صلعم_ في منامِه لا ينظر إليه قال: مَا شأني يا رسولَ الله؟ قال: ((أَلَسْتَ الَّذِي تُقَبِّلُ وَأَنْتَ صَائِمٌ؟)) قَالَ: وَالَّذِي بَعَثكَ بِالْحَقِّ لَا قَبَّلتُ بَعْدَها وَأَنَا صَائِمُ أَبَدًا، رواه ابنُ أبي شَيْبَةَ عن أبي أسامةَ عن عمرَ بن حَمْزَةَ، عن سالمِ بنِ عمرَ.
          وفي حديثِ أبي نُعَيْمٍ عن إسرائيلَ عن زيدِ بن جُبَيْرٍ، عن أبي يزيدَ الضَّبِّيِّ، عن ميمونةَ مولاةِ رسول الله _صلعم_ أنَّه _صلعم_ سُئِلَ عَن صَائِم يُقَبِّل، قَالَ: ((أَفْطَر)) قَالَ البخاريُّ فيما ذكره التِّرمذيُّ: هذا حديثٌ منكَرٌ لا أُحدِّث به، وأبو يزيدَ لا أعرف اسمَه، وهو مجهولٌ، وقال ثعلبةُ بن أبي صُعَير: رأيتُ أصحاب رسول الله _صلعم_ ينهَون عنها الصَّائمَ. وفي «المحلَّى» عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ: إن قبَّل أفطرَ وقضى يومًا مكانه، وكان ابنُ عمرَ ينهى عن المباشرة للصَّائم، ونهى الزُّهْرِيُّ عن لمسِ الصَّائم وتجريده، وسُئل ابن المسيِّب عن الصَّائم يباشر، قال: يتوب عشرَ مرات، وَقَالَ ابْنُ أبي رَباحٍ: لا يبطُل صومُه ولكن يبدلُ يومًا مكانه، وَقَالَ أبو رافعٍ: لا يباشِر الصَّائم، ورُوِّينا عَنِ ابْنِ عمر إباحتَها للشَّيخ دون الشَّابِّ، وكذا قاله ابن عبَّاس والشَّعْبيُّ، وممَّنْ أباح كلَّ ذلك عائشةُ، قالت لابن أخيها: مَا منَعك مِنْ تقبيل أهلك وملاعبتها؟ فقال: وأنا صائمٌ؟! قالت: نعم، وصحَّ عن ابن أبي وقَّاص: أتقبِّلُ وأنت صائمٌ؟ قال: نعم وأقبِضُ على متاعها، وصحَّ عَنِ ابْنِ مسعودٍ أنَّه كَانَ يباشِر المرأةَ نصفَ النَّهار وهو صائمٌ، وكان حُذيفةُ يفعله، وَقَالَ عِكْرِمةُ: يباشر الصَّائم، وقاله الحسن.
          ثانيها: قوله: (ثُمَّ ضَحِكَتْ) يحتمل لمَّا كانت تخبر عن مثل هذا، ولعلَّها هي المخبَر عنها، والنِّساء لا يحدِّثنَ الرَّجل بمثل هذا، فكانت تتبسم مِنْ إخبارها به؛ لحاجة الناس إلى معرفة ذلك، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: يحتمل أن يكون ضحكُها تعجُّبًا ممَّنْ حدَّثها في ذلك، ويُحتمل أن تتذكَّر حُبَّ الشَّارع إيَّاها فتضحكُ سرورًا بذلك، ويحتمل أنْ تعيب على مَنْ لا يملك إربه أن يفعلَ كفعل مَنْ يملكُ ذلك مِنْه، ويحتمل أيضًا أن تعيب على مَنْ يملك نفسه أن يتَّقي مَا لم يكن يتَّقيه رسول الله _صلعم_ وقيل: لأنَّها صاحبةُ القصَّة ليكون أبلغَ في الثِّقة بِقولها.
          وفيه ردٌّ على مَنْ فرَّق بين الشَّابِّ والشَّيخ؛ لأنَّ عائشة إذ ذاك كانت شابَّة، ويوضحُه حديثُ عمر بن أبي سَلَمَةَ: ((يَا رَسول الله أَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ؟)) فجوَّزه له، وكان عمر إذ ذاك في عنفوان شبابه.
          ثالثها: (الخَمِيلَةِ): الطِّنْفِسَة. و(أَنَُفِسْتِ) أي: حضت، ويقال فيه بضمِّ النُّون وفتحها كما سلف في موضعه [خ¦294].