التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الصوم آخر الشهر

          ░62▒ بَابُ الصَّوْمِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ
          1983- ذَكَرَ فِيْهِ حَدِيْثَ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ: (عَنِ النَّبِيِّ صلعم: أَنَّهُ سَأَلَهُ _أَوْ سَأَلَ رَجُلًا وَعِمْرَانُ يَسْمَعُ_ فَقَالَ: يَا أَبَا فُلاَنٍ، أَمَا صُمْتَ سَرَرَ هَذَا الشَّهْرِ؟ قَالَ: _أَظُنُّهُ قَالَ: يَعْنِي رَمَضَانَ_ قَالَ الرَّجُلُ: لَا يَا رَسُوْلَ اللهِ، قَالَ: فَإِذَا أَفْطَرَتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ). لَمْ يَقُلِ الصَّلْتُ _وهُوَ شيخُ البُخَارِيِّ_ أَظُنُّهُ يَعْنِي رَمَضَانَ.
          وَقَالَ ثَابِتٌ: عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عِمْرَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلعم: (مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ)، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وشَعْبَانُ أَصَحُّ.
          هَذَا الحديثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ: ((هَلْ صُمْتَ مِنْ سُرَرِ هَذَا الشَّهْرِ شَيْئًا؟)) _يَعْنِي: شَعْبَانَ_ مِنْ طريقينِ عَنْ مُطَرِّفٍ وهُوَ الصَّوَابُ.
          وقولُه: (وَقَالَ ثَابِتٌ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ هَدَّابِ بنِ خَالِدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ عَنْ ثابتٍ، ووَجْهُ كونِه صَوَابًا أنَّ رَمَضَانَ يَتَعَيَّنُ صَومُ جميعِه، وذَكَرَ الحُمَيْدِيُّ فِي «جمعِه» مَقَالَةَ البُخَارِيِّ السَّالِفَةَ، وقَالَ الخَطَّابِيُّ: ذِكْرُ رَمَضَانَ فِيْهِ وَهْمٌ.
          و(سَُرَرَ الشَّهْرِ) بفتحِ السِّينِ وضمِّها، وعَنِ الفَرَّاءِ: أنَّه أَجْوَدُ _أعني الفتحَ_ وسَِرَارُه _بالفتحِ والكسرِ_ وفِيْهِ ثلاثةُ أقوالٍ:
          أحدُها: وهُوَ قَوْلُ أبي عُبَيْدٍ أنَّه آخِرُ الشَّهْرِ يَسْتَسِرُّ الهِلَالُ، وبِهِ قَالَ عَبْدُ المَلِكِ بنُ حَبِيْبٍ، لثَمَانٍ وعِشْرِيْنَ ولِتِسْعٍ وعِشْرِيْنَ، فإنْ كَانَ تَامًّا فلَيلَةُ ثَلَاثِيْنَ، وأنكرَهُ غيرُه وقَالَ: لم يأتِ فِي صَومِ آخِرِ الشَّهْرِ حَضٌّ.
          ثَانِيْهَا: أنَّه وَسَطُه، فَسِرَارُ كلِّ شيءٍ وَسَطُهُ وأَفْضَلُهُ، كأنَّه يُرِيدُ الأيَّامَ الغُرَّ مِنْ وَسَطِهِ.
          ثَالِثُهَا: وهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ وسَعِيدِ بنِ عبدِ العزيزِ: سُرَّةُ الشَّهْرِ أَوَّلُهُ، وعَنِ الأَوْزَاعِيِّ أنَّه آخِرُهُ، حَكَاهُمَا الخَطَّابِيُّ، وحَكَاهُمَا البَيْهَقِيُّ عَنْهُ، وقَالَ: الصَّحِيحُ آخِرُه، ولَمْ يَعْرِفِ الأَزْهَرِيُّ سُرَّةً، وهُوَ ثابتٌ فِي «مُسْلِمٍ» مِنْ حَدِيْثِ عِمْرَانَ، وتبويبُ البُخَارِيِّ دالٌّ للأَوَّلِ، وادَّعَى ابنُ التِّيْنِ: أنَّه المشهورُ عندَ أهلِ اللُّغَةِ.
          وحَمَلَ الحديثَ الخَطَّابِيُّ عَلَى أنَّ الرَّجُلَ كَانَ أَوْجَبَهُ عَلَى نفسِهِ نَذْرًا فأَمَرَهُ بالوَفَاءِ، أو كَانَ اعتادَه فأَمَرَهُ بالمحافَظَةِ عَلَيْهِ، قَالَ: وإِنَّمَا تَأَوَّلنَاهُ لِلنَّهْيِ عَنْ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ بصَومِ يومٍ أو يومينِ، وقَالَ ابنُ التِّيْنِ عَقِبَهُ: قَالَ غيرُه: وَجهُهُ لِمَنْ يَتَحَرَّاه مِنْ رَمَضَانَ، وحَمْلُ هَذَا عَلَى صَومِهِ تَطَوُّعًا لغيرِ التَّحَرِّي.
          وفِيْهِ: دليلٌ عَلَى ابنِ سَلَمَةَ فِي مَنْعِهِ صَوْمَهُ تَطَوُّعًا، وعَلَى أصحابِ دَاوُدَ حينَ مَنَعُوا صَوْمَهُ أصلًا، وقِيْلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُوْنَ جَرَى هَذَا جَوَابًا مِنْ رَسُولِ الله صلعم لكلامٍ تَقَدَّمَهُ لم يُنْقَلْ إلينا وقيلَ: أَمَرَهُ بِهِ لِيُوَدِّعَهُ.
          وقولُه: (يَا أَبَا فُلاَنٍ) فيه: جَوَازُ الكُنْيَةِ. وقولُه: (فَإِذَا أَفْطَرَتَ) وَقَعَ فِي «مُسْلِمٍ» زيادةُ: ((رَمَضَانَ)) أي: مِنْهُ، حُذِفَتْ وهِيَ مُرَادَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوْسَى قَوْمَهُ} [الأعراف:155] أي: مِنْ قومِه، وقَدْ جَاءَ إثباتُها فِي «الدَّارِمِيِّ»، وأَمْرُهُ بصَومِ يومينِ حَضٌّ عَلَى ملازمةِ عبادةِ الخيرِ؛ لكي لَا تُقطَعَ، وألَّا يمضيَ عَلَى المُكَلَّفِ مثلُ شَعْبَانَ ولَمْ يَصُمْ مِنْهُ شيئًا، فَلَمَّا فَاتَه صَومُه أَمَرَهُ بِتَدَارُكِهِ؛ لِيَحْصُلَ لَهُ أجرٌ مِنَ الجنسِ الَّذِي فَوَّتَهُ عَلَى نفسِهِ.
          ويَظْهَرُ _كَمَا قَالَ القُرْطُبِيُّ_ أنَّهُ لِمَزِيَّةِ شَعْبَانَ، فلَا بُعْدَ أنْ يُقَالُ: إنَّ صَومَ يومٍ مِنْهُ كصَومِ يومينِ فِي غيرِه، ويَشْهَدُ لَهُ كثرةُ صَومِهِ فِيْهِ أكثرَ مِنْ صِيَامِهِ فِي غيرِه، وقَالَ الطَّبَرِيُّ: مَنِ اختارَ صِيَامَها مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ فلِكَفَّارَةِ ذَنْبِهِ.