التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: {وعلى الذين يطيقونه فدية}

          ░39▒ بَابُ قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة:184]
          قَالَ ابنُ عُمَرَ وَسَلَمَةُ بنُ الأَكْوَعِ: نَسَخَتْهَا {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيْهِ الْقُرْآنُ} إِلَى قولِهِ: {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} الآية [البقرة:185].
          1949- ثُمَّ سَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ قَرَأَ: {فِدْيَةُ طَعَامِ مَسَاكِينَ} [البقرة:184] قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ. وَقَالَ ابنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بنُ مُرَّةَ حَدَّثَنَا ابنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلعم: نَزَلَ رَمَضَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِيْنًا تَرَكَ الصَّوْمَ مِمَّنْ يُطِيقُهُ، وَرُخِّصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَنَسَخَتْهَا: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:184] فَأُمِرُوا بِالصَّوْمِ.
          الشَّرْحُ: أَثَرُ ابنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا فِي التَّفسِيرِ وقَالَ: {طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، وَكَذَا رَوَاهُ الإسماعيليُّ فِي «صحيحِه»، وأَثَرُ سَلَمَةَ أَخْرَجَهُ فِي تفسيرِه عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ بَكْرِ بنِ مُضَرَ عَنْ عَمْرِو بنِ الحَارِثِ عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ يَزِيْدَ بنِ أبي عُبَيْدٍ عَنْهُ، بلفظِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ ويَفْتَدِيَ، حَتَّى نَزَلَتِ الآيةُ الَّتِي بعدَها فَنَسَخَتْها. ولفظُ مُسْلِمٍ عَنْ سَلَمَةَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184]، كَانَ مَنْ أَرَادَ أنْ يُفْطِرَ ويَفْتَدِيَ حَتَّى نَزَلَتِ الآيةُ الَّتِي بعدَها فنَسَخَتْهَا.
          وفي «مُسْتَدْرَكِ» الحَاكمِ عَنْهُ _وقَالَ: صحيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ_ أنَّه قَرَأَ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وَاحِدٍ {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} [البقرة:184]. قَالَ: زَادَ مِسْكِيْنًا آخرَ {فَهُوَ خيرٌ لَهُ} ولَيسَتْ مَنْسُوخَةً، إلَّا أنَّه رَخَّصَ للشَّيخِ الكبيرِ الَّذِي لَا يستطيعُ الصِّيَامَ، وأَمَرَ أَنْ يُطْعِمَ الَّذِي يَعْلَمُ أنَّه لَا يُطِيْقُهُ، وفي روايةٍ لَهُ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ: ولَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.
          وفي الجزءِ الخامسِ مِنْ حَدِيْثِ أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرٍ بنِ رُهَيْلٍ البَغْدَادِيِّ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] قَالَ: الشَّيخُ الكبيرُ الَّذِي لَا يَستَطِيعُ الصِّيامَ يُفْطِرُ ويُطْعِمُ نِصْفَ صَاعٍ مَكَانَ كُلِّ يومٍ، ثُمَّ قَالَ: محفوظٌ مِنْ حَدِيْثِ الثَّوْرِيِّ يعني عَنْ منصورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْهُ موقوفٌ. ومَلِيْحٌ مِنْ حَدِيْثِ عَبْدِ اللهِ بنِ الوَلِيْدِ العَدَنِيِّ عَنْهُ، ثُمَّ سَاقَهُ، وتعليقُ ابنِ نُمَيْرٍ أَسْنَدَهُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا ابنُ زَيْدَانَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ والحَسَنُ بنُ عَفَّانَ قَالَا: حَدَّثَنَا ابنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ بِلَفْظِ: حَدَّثَنَا صاحِبُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أُحِيلَتِ الصَّلَاةُ عَلَى ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، قَالَ: وَنَزَلَ رمضانُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ. الحديثَ. وأَسْنَدَهُ البَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيْثِ عليٍّ يَعْنِي: ابنَ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيَّ، حَدَّثَنَا عبدُ اللهِ بنُ نُمَيْرٍ بلفظِ: حَدَّثَنَا أصحابُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أُحِيلَ الصَّومُ عَلَى ثلاثةِ أحوالٍ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ حَدِيْثِ المَسْعُوْدِيِّ عَنْ عُمَرَ عَنِ ابنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ قَالَ: أُحِيلَ الصِّيَامُ ثلاثةَ أحوالٍ... فَذَكَرَهُ. وهَذَا يُبَيِّنُ الصَّاحِبَ مَنْ هُوَ، لكنْ قَالَ البَيْهَقِيُّ: إنَّه مُرْسَلٌ، ابنُ أَبِي لَيْلَى لم يُدْرِكْ مُعَاذًا، وللحَازِمِيِّ مِنْ طريقِ مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرٍو بِهِ، قَالَ: وذَكَرَ فِيْهِ أنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّطَوُّعِ لَا عَلَى جهةِ الفَرْضِ إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، فاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي تأويلِ هَذِهِ الآيةِ؛ فَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وابنِ عَبَّاسٍ _في روايةٍ_ وعِكْرِمَةَ وَسَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٍ وَعَمْرِو بنِ دِيْنَارٍ وَمُجَاهِدٍ: أنَّهم قَرَؤُوهَا: «يَطَّوَّقُونَهُ» _بفتحِ أوَّلِهِ وثانيهِ مُشَدَّدًا_ قَالَ: الَّذِينَ يَحمِلُونَه ولَا يُطِيقُونَهُ فديةٌ، فعَلَى هَذَا القولِ الآيةُ مُحْكَمَةٌ غيرُ منسوخةٍ يَعْنِي: فِي الشَّيخِ والحَامِلِ والمُرْضِعِ، وَهُوَ قَوْلٌ / حَسَنٌ كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، ولكنَّ النَّاسَ ليسُوا عَلَيْهِ لأنَّ الَّذِي ثَبَتَ بينَ اللَّوحِينِ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ العراقِ والحجازِ والشَّامِ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] ولَا تكونُ الآيةُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ إلَّا منسوخةً، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابنِ عُمَرَ وسَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ ومُعَاذٍ وابنِ أَبِي لَيْلَى وعَلْقَمَةَ والنَّخَعِيِّ والحَسَنِ والشَّعْبِيِّ والزُّهْرِيِّ، ونَقَلَهُ القَاضِي عِيَاَضٌ عَنِ الجمهورِ. فتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي ناسخِ هَذِهِ الآيةِ ومنسوخِها عَلَى أربعةِ مَنازِلَ، لكلِّ واحدةٍ مِنْهُنَّ حُكْمٌ سِوَى حُكْمِ الأُخْرَى:
          فالفِرْقَةُ الأُولَى مِنْهُمْ: وهُمْ أَصِحَّاءٌ ففرضُهم الصِّيَامُ ولَا يُجْزِئُهُمْ غيرُه، لَزِمَهُمْ ذَلِكَ بالآيةِ المُحْكَمَةِ وهِيَ قولُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185].
          والثَّانِيَةُ: هُمْ مُخَيَّرُونَ بينَ الإفطارِ والصِّيَامِ، ثُمَّ عَلَيْهِمُ القَضَاءُ بعدَ ذَلِكَ _ولَا إِطْعَامَ عَلَيْهِمْ_ وهُمُ المسَافِرُونَ والمَرضَى بقولِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185].
          والثَّالِثَةُ: هُمُ الَّذِينَ لَهُمُ الرُّخْصَةُ فِي الإطعامِ _ولا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ_ وهُمُ الشُّيُوخُ الَّذِينَ لَا يستطيعونَ الصِّيَامَ.
          والرَّابِعَةُ: هُمُ الَّذِينَ اختَلَفَ العُلَمَاءُ فِيهِمْ بينَ القضاءِ والإطعامِ، وبكلِّ ذَلِكَ قَدْ جَاءَ بِهِ تأويلُ الُقرْآنِ، وأَفتَتْ بِهِ الفقهاءُ، فَذَهَبَ القَاسِمُ وسالمٌ وربيعةُ ومكحولٌ وأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أنَّ الشَّيخَ إِنِ استطاعَ الصَّومَ صَامَ، وإلَّا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شيءٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، إلَّا أنَّ مالكًا استَحَبَّ لَهُ الإطعامَ عَنْ كلِّ يومٍ مُدًّا، وحُجَّةُ هَذَا القولِ أنَّ اللهَ تَعَالَى إنَّما أوجبَ الفِدْيَةَ قبلَ النَّسْخِ عَلَى المُطِيقِينَ دونَ غيرهِم، وخَيَّرَهُمْ فِيْهِ بينَ أنْ يَصُومُوا بقولِه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة:184]، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ وأَلْزَمَهُمُ الصَّومَ حتمًا، وسَكَتَ عَمَّنْ لَا يُطيقُ فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الآيةِ، فصَارَ فرضُ الصِّيَامِ زائلًا عنهم كَمَا زَالَ فرضُ الزَّكَاةِ والحَجِّ عَنِ المُعْدِمِينَ الَّذِينَ لَا يَجِدوُن إِلَيْهِ سبيلًا. وأَبَى ذَلِكَ أَهْلُ العِرَاقِ والثَّوْرِيُّ، وأوجبُوا الفديةَ عَلَى الشَّيخِ وقَالُوا: إنَّ الزَّكَاةَ والحَجَّ لَا يُشْبِهَانِ الصِّيَامَ؛ لأنَّ الكتابَ والسُّنَّةَ فَرَّقَ بينهما؛ وذَلِكَ أنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ مِنَ الصَّوْمِ بَدَلًا أوجبَه عَلَى كلِّ مَنْ حِيلَ بينَه وبينَ الصِّيَامِ _وهُوَ الفديةُ_ كَمَا جَعَلَ التَّيَمُّمَ بَدَلًا مِنَ الطَّهُورِ واجبًا عَلَى مَنْ أَعْوَزَهُ الماءُ، وكَمَا جَعَلَ الإيماءَ بَدَلًا مِنَ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ لِمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمَا، ولَمْ يَجعَلْ مِنَ الزَّكَاةِ والحَجِّ بَدَلًا لِمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمَا. وإِلَى هَذَا ذَهَبَ الكُوْفِيُّوْنَ والأَوْزَاعِيُّ والشَّافِعِيُّ، وحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ وابنِ عَبَّاسٍ وأَبِي هُرَيْرَةَ وأَنَسٍ وسَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ وطَاوُسٍ وأَحْمَدَ.
          وأمَّا الفِرقَةُ الرَّابِعَةُ: فالحَامِلُ والمُرضِعُ؛ وفيهما اختَلفَ النَّاسُ قديمًا وحديثًا، فَقَالَ بعضُ العلماءِ: إِذَا ضَعُفَتَا عَنِ الصِّيَامِ وخَافَتْ عَلَى نَفسِها ووَلَدِهَا أَفْطَرَتْ وأَطعَمَتْ عَنْ كلِّ يومٍ مِسْكِيْنًا، فَإِذَا فَطَمَتْ وَلَدَهَا قَضَتْهُ، وهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وأَحْمَدَ، وعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: إِنْ أَفْطَرَتَا خوفًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَجَبَ القَضَاءُ بِلَا فِدْيَةٍ، أَوْ عَلَى الوَلَدِ فالقَضَاءُ والفِدْيَةُ، وقَالَ المُزَنِيُّ: تُسْتَحَبُّ الفِدْيَةُ، وقِيْلَ: تَجِبُ عَلَى المُرْضِعِ دونَ الحَامِلِ، وعَنْ إِسْحَاقَ: تُخَيَّرَانِ بينَ القَضَاءِ ولَا فِدْيَةَ، وبينَ الفِدْيَةِ ولَا قَضَاءَ، وقَالَت الظَّاهِرِيَّةُ: لَا قَضَاءَ ولَا فِدْيَةَ، وقَالَ آخرونَ: عَلَيْهِمَا الإطعامُ ولَا قَضَاءَ، وهُوَ قَوْلُ ابنِ عَبَّاسٍ وابنِ عُمَرَ وسَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ وقَتَادَةَ، وقَالَ آخرونَ: عَلَيْهِمَا القَضَاءُ ولَا كَفَّارَةَ كالمريضِ، وهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ والنَّخَعِيِّ والحَسَنِ والزُّهْرِيِّ وابنِ جُبَيْرٍ ورَبِيعَةَ والأَوْزَاعِيِّ وأَبِي حَنِيْفَةَ والثَّورِيِّ، ورَوَى ابنُ عبدِ الحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ مثلَه، وهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ، وفرقةٌ رابعةٌ: فَرَّقَتْ بينَ الحُبلَى والمُرضِعِ؛ فَقَالَتْ فِي الحُبلَى: هِيَ بمنزلةِ المريضِ تُفْطِرُ وتَقضِي ولَا إِطعْاَمَ عَلَيْهَا، والمُرْضِعُ تُفْطِرُ وتُطْعِمُ وتَقضِي، هَذَا قولُ مالكٍ فِي «المُدَوَّنَةِ» واللَّيثِ.
          قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وكلُّ هؤلاءِ إنَّما تَأَوَّلُوا قولَه تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة:184] فمَنْ أوجبَ القَضَاءَ والإطعامَ مَعًا ذَهَبَ إِلَى أنَّ اللهَ تَعَالَى حَكَمَ فِي تاركِ الصَّومِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ بحُكْمَينِ، فجَعَلَ الفديةَ فِي آيةٍ والقَضَاءَ فِي أُخرَى، فَلَمَّا لم يَجِدْ ذِكْرَ الحَامِلِ والمُرضِعِ مُسَمًّى فِي وَاحِدَةٍ منهما جَمَعَهُمَا جميعًا عَلَيْهِمَا احتياطًا لهما وأخذًا بالثِّقَةِ، ومَنْ أوجبَ الإطعامَ فقطْ فقَالَ: لَيْسَا كالسَّفَرِ والمَرَضِ، ولكنَّهما مِمَّنْ كُلِّفَ الصَّومَ وطُوِّقَهُ ولَيْسَ بمُطِيقٍ فهُمْ مِنْ أهلِ الإطعامِ فقطْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ▬وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُوْنَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكينَ ↨[البقرة:184]، وهِيَ قراءةُ ابنِ عَبَّاسٍ وفُتيَاهُ، وقَدْ يجوزُ هَذَا عَلَى قراءةِ {يُطِيقُونَهُ} أي بجهدٍ ومَشَقَّةِ فيَتَّحِدُ معناهما، قَالَهُ غيرُ أبي عُبِيْدٍ، ومَنْ أوجبَ القَضَاءَ فقطْ ذَهَبَ إِلَى أنَّ الحَمْلَ والرَّضَاعَ عِلَّتَانِ مِنَ العِلَلِ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ فِيْهِمَا مِنَ التَّلَفِ عَلَى الأنفسِ مَا يُخَافُ مِنَ المرضِ، وشَاهِدُهُ حديثُ أَنَسٍ: أَتَيتُ النَّبِيَّ صلعم فِي إبلٍ لجارٍ لِي أُخِذَتْ فوافقتُه يَأْكُلُ فَدَعَانِي إِلَى طَعَامِهِ، فَقُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ فقَالَ: ((ادْنُ أُخْبِرْكَ عَنْ ذَلِكَ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنِ المُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ، وَعَنِ الحَامِلِ وَالمُرْضِعِ))، فَقَرَنَهُمَا بالمسافرِ ولَا يلزمُه غيَر القَضَاءِ. وقَالَ القاضي عِيَاضٌ: اختَلفَ السَّلَفُ هَلْ هِيَ مُحْكَمةٌ أو مخصوصةٌ أو منسوخةٌ كلُّها أو بعضُها؟ فَقَالَ الجمهورُ: هِيَ منسوخةٌ ثُمَّ استَدَلَّ بقولِ سَلَمَةَ، ثُمَّ اختَلَفُوا هَلْ بَقِيَ منها مَا لم يُنْسَخْ؟ فَرُوِيَ عَنِ ابنِ عُمَرَ والجمهورِ أنَّ حُكْمَ الإطعامِ باقٍ عَلَى مَنْ لم يُطِقِ الصَّومَ لكِبَرِهِ، وقَالَ جماعةٌ مِنَ السَّلَفِ ومالكٌ وأَبُو ثَوْرٍ ودَاوُدُ: جميعُ الإطعامِ منسوخٌ وليسَ عَلَى الكبيرِ إِذَا لم يُطِقِ الصَّومَ إطعامٌ، واستَحَبَّهُ لَهُ مالكٌ.
          وقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتِ الرُّخْصَةُ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الصَّومِ ثُمَّ نُسِخَ فِيْهِ، وبَقِيَ فِيْهِ فِيمَنْ لَا يُطِيقُ، وقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ وغيرُه: نَزَلَتْ فِي الكبيرِ والمريضِ اللَّذِينِ لَا يقدرانِ عَلَى الصَّومِ؛ فهي عندَه محكمةٌ، لكنَّ المريضَ يَقضِي إِذَا بَرَأَ، وأكثرُ العلماءِ عَلَى أنَّه لَا إطعامَ عَلَى المريضِ. وقَالَ زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ والزُّهْرِيُّ ومَالِكٌ: هِيَ محكمةٌ، ونَزَلَتْ فِي المريضِ يُفْطِرُ ثُمَّ يَبْرَأُ فلَا يَقضِي حَتَّى يَدْخَلَ رمضانُ آخرُ فيلزمُه صومُه ثُمَّ يَقضِي بعدَما أَفْطَرَ، ويُطْعِمُ عَنْ كلِّ يومٍ مُدًّا مِنْ حنطةٍ، فأمَّا مَنِ اتَّصَلَ صومُه برمضانَ ثانٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إطعامٌ بَلْ عَلَيْهِ القَضَاءُ فقطْ. وقَالَ الحَسَنُ وغيرُه: / الضَّمِيرُ فِي {يُطَوَّقُونَه} عَائِدٌ عَلَى الإطعامِ لَا عَلَى الصَّومِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فَهِيَ عندَه عَامَّةٌ. ثُمَّ جمهورُ العلماءِ عَلَى أنَّ الإطعامَ عَنْ كلِّ يومٍ مُدٌّ، وقَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ: مُدَّانِ، ووَافَقَهُ صَاحِبَاهُ.
          فَائِدَةٌ: ((يَطَّوَّقُوْنَهُ)) بفتحِ أَوَّلِهِ وثانيهِ مُشَدَّدًا كَمَا أسلفتُه، وقُرِئَ بضَمِّ الياءِ وفتحِ الطَّاءِ وتشديدِ الواوِ وفتحِها، حَكَاهُمَا ابنُ التِّيْنِ مَعَ الأُولَى، وعَزَا الأُولَى إِلَى مجاهدٍ، قَالَ: والنَّاسِخُ {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} خِلَافًا لابنِ أَبِي لَيْلَى كَمَا سَلَفَ، قَالَ: وهُوَ أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ ابنِ عَبَّاسٍ: إنَّها محكمةٌ، قَالَ: وحَمْلُ (يُطِيْقُوْنَهُ) عَلَى (يُطَوَّقُوْنَهُ) مَجَازٌ بعيدٌ بغيرِ دليلٍ، ولَا يُقَالُ لِمَنْ لَا يَقْدِرُ أنْ يَصُومَ: أَنْ تَصُومَ خيرٌ لَكَ، وقولُه: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة:184] قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: زَادَ مِسْكِيْنًا آخَرَ، وقَالَ مجاهدٌ: أَطْعَمَ صَاعًا فتَطَوَّعَ بثلاثةِ أَمْدَادٍ.