التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من أفطر في السفر ليراه الناس

          ░38▒ بَابُ مَنْ أَفْطَرَ فِي السَّفَرِ لِيَرَاهُ النَّاسُ /
          1948- ذَكَرَ فِيهِ حَدِيْثَ ابنِ عَبَّاسٍ السَّالِفَ قَرِيْبًا: (فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ فَأَفْطَرَ).
          ولَعَلَّ سَبَبَ فِطْرِهِ أنَّه قِيْلَ لَهُ: إنَّ النَّاسَ هَلَكُوا إذْ أَخَذُوا باختِيَارِكَ فِي الصَّومِ، فأَفْطَرَ لِيَرَاُه النَّاسُ فأَفْطَرَوا بِفِطْرِهِ. وقَدْ سَلَفَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيْثِ جَابِرٍ، وأنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِم الصيِّامُ، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: اختَلَفَ العُلَمَاءُ فِي الفِطْرِ المذكورِ فِي هَذَا الحديثِ، فَقَالَ قومٌ: معناهُ أنَّه أصبحَ مُفْطِرًا قَدْ نَوَى الفِطْرَ فِي ليلتِهِ، وهَذَا جَائِزٌ بالإجماعِ أَنْ يُبَيِّتَ المُسَافِرُ الفِطْرَ إنِ اختَارَهُ، وقَالَ آخرونَ: معناهُ أنَّه أفطرَ في نهارِه بعدَ أنْ مَضَى صدرٌ منهُ، وأنَّ الصَّائِمَ جَائِزٌ لَهُ أن يفعلَ ذَلِكَ فِي سَفَرِهِ؛ لِأَنَّهُ ◙ صَنَعَ ذَلِكَ رِفْقًا بأمَّتِهِ، وقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا فِي حديثِ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيْهِ عَنْ جَابِرٍ: أنَّه ◙ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ الفَتْحِ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الغَمِيْمِ، فَصَامَ النَّاسُ وَهُمْ مُشَاةٌ ورُكْبَانٌ، فَقِيْلَ لَهُ: إنَّ النَّاس قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصَّومُ، وَإِنَّمَا ينظرونَ إِلَى مَا فَعَلْتَ فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيهِ، وصَامَ بعضٌ فَقِيْلَ لَهُ: إِنَّ بعضَهم قَدْ صَامَ فقَالَ: ((أُولَئِكَ العُصَاةُ)). وقَدْ أَسْلَفْنَاهُ مِنْ «صحيح مسلمٍ» عَنْ جَابِرٍ، وهُوَ يُبَيِّن معنى التَّرجَمَةِ وأنَّه ◙ إنَّما أَفْطَرَ ليَرَاهُ النَّاسُ فيَقتَدُوا بِهِ ويُفْطِرُوا؛ لأنَّ الصِّيَامَ كَانَ نَهِكَهُمْ وأَضَرَّ بِهِمْ فأَرَادَ ◙ الرِّفْقَ بهم والتَّيسِيرَ عَلَيْهِمْ أخذًا بقولِه تَعَالَى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة:185]. فأَخبَرَ تَعَالَى أنَّ الإفطارَ فِي السَّفَرِ أَرَادَ بِهِ التَّيسِيرَ عَلَى عِبَادِهِ، فمَنِ اختارَ رُخْصَةَ اللهِ فأَفْطَرَ فِي سَفَرِهِ أَوْ مَرَضِهِ لم يَكُنْ مُعَنَّفًا، ومَنِ اختارَ الصَّومَ وهُوَ يَسِيرٌ عَلَيْهِ فَهُوَ أفضلُ لصِحَّةِ الخبرِ أنَّه صَامَ حينَ شَخَصَ مِنَ المدينةِ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَكَّةَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ والكَدِيْدَ فصَاَمَ مَعَهُ أصحابُه، إذكان ذَلِكَ يسيرًا عَلَيْهِم، وأَفْطَرَ وأَمَرَ أصحابَه بالإفطارِ لَمَّا دَنَا مِنْ عَدُوِّهِ فَصَارَ الصَّوم عَسِرًا إِذْ كَانَ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِمُ الضَّعْفُ والوَهْنُ فِي حَربِهِمْ لو كَانُوا صيامًا عندَ لِقَاءِ عَدُوِّهم، فكَانَ الإفطارُ حِيْنَئِذٍ أَولَى بهم مِنَ الصَّوْمِ عندَ الله وأفضلَ لِمَا يَرْجُونَ مِنَ القُوَّةِ عَلَى العَدُوِّ، وإعلاءِ كلمةِ الدِّين بالإفطارِ، وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بنِ دِيْنَارٍ عَنْ عُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ: أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم أَمَرَ أَصحَابَهُ يومَ فتحِ مَكَّةَ فقَالَ: ((أَفْطِروا، فَإِنَّهُ يَوْمُ قِتَالٍ))، وَرَوَى حَمَّادٌ عَنِ الجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ جَابِرٍ: أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم كَانَ فِي سَفَرٍ فَأَتَى عَلَى غَدِيرٍ فَقَالَ للقَومِ: ((اشْرَبُوا)) فقَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَنَشْربُ وَلَا تَشْرَبُ؟ قَالَ: ((إِنِّي أَيْسَرُكُمْ إِنِّي رَاكِبٌ وَأَنْتُمْ مُشَاةٌ)) فَشَرِبَ وَشَرِبُوا.