التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول النبي: إذا توضأ فليستنشق بمنخره الماء

          ░28▒ بَابُ: قَوْلِ النَّبِيِّ _صلعم_: (إِذَا تَوَضَّأَ، فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرِهِ المَاءَ) وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الصَّائِمِ وَغَيْرِهِ.
          وَقَالَ الحَسَنُ: لاَ بَأْسَ بِالسَّعُوطِ لِلصَّائِمِ، إِنْ لَمْ يَصِلْ إلى حَلْقِهِ، / وَيَكْتَحِلُ وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ مَضْمَض ثُمَّ أَفْرَغَ مَا فِي فيه مِنَ المَاءِ لَمْ يضرَّه أنْ يَزْدَرِدْ رِيقَهُ، وَمَا بَقِيَ فِي فيه، وَلاَ يَمْضَغُ العِلْكَ، فَإِنِ ازْدَرَدَ رِيقَ العِلْكِ لاَ أَقُولُ إِنَّهُ يُفْطِرُ، وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْهُ.
          الشَّرْحُ: أثرُ الحسنِ رواه أبو بكرِ بنُ أبي شَيْبَةَ، عن هِشامٍ، عنه بلفظ: أنَّه كره للصَّائم أن يَسْتَعِطَ فيفطرَ. وحدَّثنا حفصٌ عن عمرَ عَنِ الْحَسَنِ قال: لا بأسَ بالكحل للصَّائم مَا لم يجد طعمَهُ، وسُئل إبراهيمُ عن السَّعُوط بالصَّبِرِ للصَّائم فلم يرَ به بأسًا، وكَرِهَ الصَّبَّ في الآذان، وعن الشَّعْبيِّ أنَّه كَره السَّعُوط للصَّائم، والسُّعوط _بضمِّ السِّين_ الفعلُ، وبفتحها: اسمٌ للدَّواء الَّذِي يجعل في السَّعوط.
          وأثرُ عطاءٍ وقع في بعض النُّسخ في آخره: وإن استنثر فدخَل في حلقه لا بأسَ لم يملكْ، وهذا سلف في باب: الصَّائم إذا أكل أو شرب [ترجمة الباب]. وكذا قولُ عطاءٍ في ازدراد الرِّيق في الباب الَّذِي قبله، وروى ابنُ أبي شَيبة، عن أبي خالدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ أنَّه سُئل عن مَضْغِ العِلْكِ فَكَرِهَه، وقال: هو مَرْوأةٌ. وحدَّثنا محمَّد عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قال: قال إنسانٌ لعطاءٍ: استنثرتُ فدَخَلَ الماءُ في حلقي، قال: لا بأسَ، لم تملِكْ، ومِنْ حديث رجلٍ عن أبيه عن أمِّ حَبيبةَ أنَّها كَرهتْ مَضْغَ العِلْكِ للصَّائم، وكَرِهَهُ إبراهيمُ والشَّعْبيُّ أيضًا، وفي روايةِ جابرٍ عنه: لا بأسَ به للصَّائم مَا لم يبلعْ ريقَه.
          وقوله: (لَمْ يَضُرُّه) كذا وقع في رواية أبي ذَرٍّ وغيره، ووقع أيضًا: <لاَ يَضِيرُهُ>، والمعنى واحد؛ لأنَّ الضَّير: المضرَّةُ، نبَّه عليه ابنُ التِّيْنِ، ثمَّ قال: وبهذا قَالَ مالكٌ، والازْدِرَادْ: الابتلاع، زَرَدَ اللُّقْمَةَ يَزْرَدُها زَرْدًا إذا بَلَعَها، إذا تقرَّر ذلك، فالكلام عليه مِنْ أوجهٍ:
          أحدها: اختلف العلماء في الصَّائم يتمضمض أو يستنشقُ أو يستنثرُ ويدخل الماء في حلقه، فقالت طائفةٌ: صومُه تامٌّ ولا شيءَ عليه، هذا قول عطاءٍ وقَتَادَةَ في الاستنثار، وبه قَالَ أحمدُ وإسحاقُ، وَقَالَ الحسنُ: لا شيءَ عليه إن مضمض فدخل الماءُ في حلقه، وهو قول الأوزاعيِّ، وكان الشَّافعيُّ يقول: لو أعاد احتياطًا ولا يلزمُه أن يُعيد ومحِلُّه إذا لم يبالغ، فإن بالغ أفطر.
          وقال أبو ثورٍ: لا شيءَ عليه في المضمضة والاستنشاق، وإلى هذا ذهب البخاريُّ، وقالت طائفةٌ: يقضي يومًا مكانَه، هذا قول مالكٍ والثَّوريِّ، وَقَالَ أبو حَنِيْفَةَ وأصحابُه في المضمضة: إن كَانَ ذاكرًا لصومه قضى، وإن كَانَ ناسيًا فلا شيءَ عليه، وفرَّق آخرون بين المضمضة للصَّلاة المكتوبة والنَّافلة، فأوجبوا القضاء في النَّافلة وأسقطوه في المكتوبة، رُوي هذا عَنِ ابْنِ عبَّاس والنَّخَعيِّ وابنِ أبي ليلى، وحُجَّة مَنْ أوجب القضاءَ أنَّ المُوْصِلَ إنَّما هو المبالغة فيهما فقط لا هما، والاحتراز مِنْهما ممكنٌ عادةً وإن لم يبالغْ فالمضمضة سببُ ذلك أيضًا، وهذا بمنزلة القبلة إذا حصل معها الإنزال سواء كانت القبلة مباحةً أو غير مباحة؛ لأنَّه لمَّا كانت القبلةُ مع الإنزال تفطِّر، كذلك المضمضة مع الازدراد، وأظنُّ أبا حَنِيْفَةَ إنَّما فرَّق بين الذَّاكر لصومِه والنَّاسي على أصله في كلِّ مَنْ أكل ناسيًا في رمضانَ أنَّه لا شيءَ عليه، وقد سلف في باب: الصَّائم إذا أكل أو شرب ناسيًا [خ¦1933]، ولا معنى لقول مَنْ فرَّق بين الوضوء للمكتوبة والنَّافلة بغير دليلٍ ولا حُجَّة.
          ثانيها: اختُلف في السَّعوط للصَّائم، فذهب الثوريُّ وأبو حَنِيْفَةَ وأصحابُه والأوزاعيُّ وإسحاقُ إلى أنَّه إذا استعط فعليه القضاء، يعنون إذا احتاج إلى التَّداوي، وَقَالَ مالكٌ: إذا وصل طعمُ ذلك إلى فيه لضرورة إلى التَّداوي عليه القضاءُ، وَقَالَ الشَّافعيُّ: إذا وصل ذلك إلى دماغه عليه القضاءُ، غير أنَّ أصلَه أنَّه لا كفارةَ على مَنْ أكل عمدًا، قَالَ إسحاق: إن دخل حلقَه عليه القضاءُ والكفَّارة، وبه قَالَ أبو مُصْعَبٍ، قَالَ ابْنُ المنذِرِ: وَقَالَ قائلٌ: لا قضاءَ عليه، وقد رُوِّينا عن النَّخَعيِّ روايتين: كراهيةَ السَّعوط والرُّخصةَ فيه.
          وحُجَّة الموجب مَا سلف في المضمضة، وحُجَّة المانع: أنَّ القضاء إلزامُ فرضٍ، ولا يجب ذلك إلَّا بسُنَّة أو إجماعٍ وذلك غيرُ موجودٍ، والشَّارع أطلق الاستنشاق ولم يفرِّق بين صائمٍ وغيره، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: لكنْ نُهي الصَّائمُ عن الأكل والشُّرب فيَتحفَّظ ممَّا يؤدِّي إليهما.
          ثالثها: مَا حكاه البخاريُّ عن عطاءٍ أنَّه إن مضمض ثمَّ أفرغ مَا في فيه لم يضرَّه أن يزدرد ريقَه وما بقي في فيه، فلا يوهم هذا أنَّ عطاءً يبيح أن يزدرد مَا بقي في فيه مِنَ الماء الَّذِي تمضمض به، وإنَّما أراد أنَّه إذا مضمض ثمَّ أفرغ مَا في فيه مِنَ الماء أنَّه لا يضرُّه أن يزدرد ريقَه خاصَّة؛ لأنَّه لا ماءَ فيه بعد تفريغه له، قَالَ عطاءٌ: وماذا بقي في فيه؟، هكذا رواه عبد الرَّزَّاق عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عن عطاءٍ، وأظنُّه سقط ذا للنَّاسخ كما نبَّه عليه ابن بَطَّال، قَالَ ابْنُ المنذِرِ: وأجمعُوا أنَّه لا شيءَ على الصَّائم فيما يزدرده مِمَّا يجري مع الرِّيق فيما بين أسنانه مِنْ فضل سَحوره أو غيره مِمَّا لم يَقْدر على إخراجه وطَرْحِه، وكان أبو حَنِيْفَةَ يقول: إذا كَانَ بين أسنانه لحم فأكله متعمِّدًا فلا قضاءَ عليه ولا كفَّارة، وسائرُ أهل العلم: إمَّا القضاءُ وإمَّا الكفَّارة معه، وهو بمنزلة الأكل في الصَّوم، فعليه القضاءُ.
          رابعها: اختلفوا في مَضْغِ العِلْكِ للصَّائم، فرخَّصت فيه طائفةٌ، رُوي ذلك عن عائشةَ وعطاءٍ، وَقَالَ مجاهدٌ: كانت عائشةُ ترخِّص في القار وحدَه. وكرهتْ ذلك طائفةٌ، رُوي ذلك عن النَّخَعيِّ والشَّعْبيِّ وعطاءٍ، والكوفيِّين والشَّافعيِّ وأشهبَ وأحمدَ وإسحاقَ، إلَّا أنَّه لا يفطِّر ذلك عند الكوفيِّين والشَّافعيِّ وإسحاقَ. ولم يَذكر عنهم ابنُ المنذِرِ الفَرْقَ بين مجِّه وازدراده، وعند أصحاب مالكٍ: إِنْ مَجَّه فلا شيءَ عليه، / وإن ازدرده فقد أفطر، ونقل ابنُ التِّيْنِ عن مالكٍ القضاءَ والكفَّارة معلِّلًا بأنَّه مستخفٌّ لحرمة الصَّوم، قَالَ الشَّافعيُّ: وأَكْرَهُ العِلْكَ لأنَّه يجلب الرِّيَق، وضبطه الروياني بالجيم، أي: يجمعه وقيل يطيِّب الفم ويزيل الخُلُوْف، فيختصُّ على هذا بما بعدَ الزَّوال لأنَّه يكره إزالته حينئذٍ، قال: ويروى بالحاء المهملة أي يمتصُّ الرِّيق ويجهدُ الصَّائم فيورثُ العطش، قَالَ أصحابنا: ولا يفطِّر بنزول الرِّيق مِنْه إلى جوفه فإن تفتَّت فوصل مِنْ جِرْمِه شيءٌ إلى جوفه عمدًا أفطرَ، وإن شكَّ فلا، ولو نزل طعمُه في جوفه أو ريحه دون جِرْمِه لم يفطر؛ لأنَّ ذلك الطَّعم بمجاورة الرِّيق له، ومَنْ فطَّر بابتلاع الرِّيق وفيه طعمُه ليس بشيء.
          فرعٌ: اللُّبَانُ في معنى العِلْكِ فيُكْرَهُ له مَضْغُهُ، صرَّح به البَنْدَنيجيُّ، وخصَّ القاضي حسينٌ محلَّ كراهة العِلْكِ بما إذا كَانَ قد أُصْلِحَ، وَقَالَ فيما لم يُصْلَحْ: إنَّه لا محالةَ يصلُ مِنْه شيءٌ إلى جوفِه، فلا يجوز له مضغُه، وفصَّل في الكُنْدُر وهو اللُّبَانُ الأبيض بين مَا إذا أصابه الماء يبسَ واشتدَّ فإنَّه كالعِلْكِ، وبين مَا إذا أصابه تفتُّت ونزل إلى الحلق فلا يجوز له مضغُه، فإنْ مَضَغَهُ أفطرَ.
          فائدةٌ: العِلْكُ _بكسر العين_ معروف، قال الرُّوْيانيُّ وغيرُه: وهو المومياء الَّذِي كلما مُضِغَ صَلُبَ وَقَوِيَ واجتمعَ، ويجوز فتحُ العين على معنى الفِعْلِ.