التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة

          ░10▒ بَابٌ: الصَّوْمُ لِمَنْ خَافَ على نَفْسِهِ العُزُوبَة.
          1905- ذَكَرَ فيه حديثَ أبي حمزةَ _بالحاء المهملة والزَّاي_ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ عَبْدِ الله فَقَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ _صلعم_ فَقَالَ: (مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعليه بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ).
          هذا الحديث أخرجه مسلمٌ والأربعةُ، والاستطاعة هنا وجودُ مَا يتزوَّج به لا القدرةُ على الوطء، و(البَاءَةَ) أصلها في اللُّغة: الجِماع، وهي مشتقَّة مِنَ المَباءة وهي: المنزِل، ثمَّ قيل لعقد النِّكاح: باءة؛ لأنَّ مَنْ تزوَّج امرأةً فقد بوَّأها منزلًا، فهو مِنْ مَجاز الملازمة، وفي الباءة أربعُ لغاتٍ أفصحُها وأشهرُها: الباءة بالمدِّ والهاء، ثانيها: بدون مدٍّ، ثالثها: بلا هاءٍ، رابعها: الباهة بهاءَينِ بلا مدٍّ، وفي بعض شروح «التَّنبيه» أنَّها بالمدِّ: القدرة على مُؤَنِ النِّكاح، وبالقصر: الوَطْءُ، وفي «المُوْعَبِ»: الباءة: الحظُّ مِنَ النِّكاح، واختلفوا في المراد بِهَا هنا على قولين يرجِعان إلى معنًى واحدٍ أصحُّهما: أنَّ المراد معناها اللُّغويُّ وهو الجِماع، والثَّاني الْمُؤَن، قَالَ ابْنُ دُريدٍ: سُمِّيت باءةً لأنَّ الماء يُصَبُّ ثمَّ يعود.
          ومعنى (أَغَضُّ) أَمْنَعُ وأَحْصَنُ، مأخوذٌ مِنَ الحِصن الَّذِي يُمْتَنَع به مِنَ العدوِّ، والوِجَاء _بكسر الواو والمدِّ_ رَضُّ الأُنثيَين أي: قاطعٌ للشَّهوة، فإن سُلَّتَا فهو الخصيُ، وأطلق الدَّاوُدِيُّ أنَّ الوِجاء هو الخَصيُ، وحُكي فيه فتح الواو والقصر، وليس بشيءٍ، كما نبَّه عليه القُرْطُبيُّ، وحكاه صاحب «مجمع الغرائب» وغيره مِنَ الحَفَى، وما أبعده؛ لأنَّه لا يكون إلَّا بعد طولِ مشيٍ وتعبٍ، إلَّا أن يُستعمل بمعنى الفُتُور.
          و(أَغَضُّ) و(أَحْصَنُ) يحتمل أن تكون لغير المبالغة وأن تكون على بابها، وقوله: (فَعليه بِالصَّوْمِ) ليس إغراءَ الغائبِ؛ لأنَّ الهاء في (عَلَيْهِ) لمَنْ خصَّه مِنَ الحاضرين بعدم الاستطاعة لتعذُّر خطابه بكاف الخطاب والحوالة على الصَّوم لما فيه مِنْ كسرِ الشَّهوة؛ فإنَّ شهوةَ النِّكاح تابعةٌ لشهوة الأكلِ، تَقْوَى بقوِّتها، وتضعفُ بضعفها.
          وَفيه كما قَالَ الخَطَّابِيُّ: دِلالةٌ على جواز المعاناة لقطع الباهِ بالأدوية، ومَنَعَهُ غيرُه قياسًا على التَّبتُّل والإخصاء.
          وَفيه وجوبُ الخيارِ في العُنَّة، كما قاله القُرْطُبيُّ، وَفيه الأمرُ بالنِّكاح لمَنِ استطاع وتاقت نفسُه، وهو إجماعٌ، لكنَّه عند الجمهور أمرُ نَدْبٍ لا إيجابٍ، وإن خاف العَنَتَ، وستأتي المسألة _إن شاء الله_ مبسوطةً في النِّكاح، فإنَّه أَلْيَقُ بها، وقد نَدب _صلعم_ أمَّته إلى النِّكاح ليكونوا على كمالٍ مِنْ دينهم، وصيانةً لأنفسهم في غضِّ أبصارهم وحفظ فروجهم، لِمَا يُخشى على مَنْ جَبَلَهُ اللهُ على حبِّ أعظم الشَّهوات، ثمَّ علمَ أنَّ النَّاس كلَّهم لا يجدون طَولًا في النِّساء، وربَّما خافوا العَنَتَ بعقد النِّكاح، فعوَّضهم مِنْه مَا يدافعون به سَورة شهواتِهم وهو الصِّيام، (فَإِنَّهُ وِجَاءٌ)، وهو مَقْطَعةٌ للانتشارِ وحركةِ العروق الَّتِي تتحرَّك عند شهوةِ الجماع.