التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول النبي: لا نكتب ولا نحسب

          ░13▒ بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ _صلعم_: (لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ).
          1913- ذَكَرَ فيه حديثَ ابن عمر قال: قَالَ النَّبيُّ _صلعم_: (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا. يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَمَرَّةً ثَلاَثِينَ).
          هذا الحديث أخرجه مسلمٌ بلفظ: ((نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا)) وَعَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ ((وَالشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا)) يَعْنِي تَمَامَ ثَلَاثِينَ، وانفرد بإخراجه مِنْ حديث سعد بن أبي وقَّاص، وَقَالَ أبو حاتمٍ: مرسَلٌ عن محمَّدِ بن سعدٍ، عن رسول الله _صلعم_ ولأبي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ مسعودٍ: مَا صمت مع رسول الله _صلعم_ تسعًا وعِشْرِينَ أكثر مِمَّا صُمنا ثلاثين، وعن عائشةَ مثلُه عند الدَّارَقُطْنيِّ وقال: إسنادٌ حسنٌ صحيحٌ، ولابنِ مَاجَهْ مثلُه مِنْ حديثِ أبي هُريرةَ.
          قَالَ أبو حاتمٍ الرَّازيُّ: وحديثُ ابن عبَّاس رفعه: ((الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ وَثَلَاثُون)) خطأٌ، والصَّحيح: عن عِكْرِمَةَ عن رسول الله _صلعم_ كذا رواه الحُفَّاظ، فقيل له: فقد رُوي عن سمَّاكٍ، عن عبد الله بن شدَّادٍ، عن عائشةَ أيضًا، فقال / أبو زُرْعَةَ: يُخْطِئُ مَنْ يقول ذلك، وخطَّأ أبو حاتمٍ روايةَ مَنْ رَوَى عنها مرفوعًا: ((إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ)).
          إذا تقرَّر ذلك فمعنى قوله: (إِنَّا أُمَّةٌ) أي جماعةَ قريشٍ، مثل قوله: {أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص:23] و(أُمِّيَّةٌ) أي باقون على مَا وَلَدت عليه الأمَّهات لا نكتُب ولا نحسُب، أو نسبةً إلى الأمِّ وصِفَتِها؛ لأنَّ هذه صفات النِّساء غالبًا، وَقَالَ الرُّشَاطيُّ: يعني نسبوا إلى مَا عليه أمَّةُ العرب، وكانوا لا يكتبون، وقيل له: أمِّيٌّ نسبةً إلى أمِّ القُرى مكَّة، وجعله الله أمِّيًّا خشيةَ أن يرتابَ المبطِلون، إنَّما يسمع وحيًا فيبلِّغُه ولم يأخذ عن كتبِ الأُمَمِ قبلَنا، ولا بحسابِ نجومٍ، وقال: (أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ) لم تأخذ عن كُتُب الأمم قبلها، إنَّما أخذته عمَّا جاء به الوحي مِنَ الله. ومعنى: (لَا نَحْسُبُ) _وهو بضمِّ السِّين_ أي لم نكلَّف في تعريف مواقيت صومِنا ولا عبادتنا مَا نحتاج فيه إلى معرفةِ حسابٍ ولا كتابٍ، إنَّما رُبطت عبادتُنا بأعلامٍ واضحةٍ وأمورٍ ظاهرةٍ، يَستوي في معرفة ذلك الحُسَّاب وغيرُهم، ثمَّ تمَّم هذا المعنى بإشارته بيدهِ ولم يلفظ بعبارةٍ عنه نزولًا إليها بما يفهمه الخُرس والعُجم، وحصل مِنْ إشارته بيده أنَّ الشَّهر يكون ثلاثين، ومِنْ خَنْسِه إبهامَه في الثَّالثة أنَّه يكون تسعًا وعشرين، وعلى هذا أنَّ مَنْ نذر أن يصومَ شهرًا غير معيَّن فله أن يصوم تسعًا وعشرين؛ لأنَّ ذاك يُقال له: شهر، كما أنَّ مَنْ نذر صلاةً أجزأه مِنْ ذلك ركعتان؛ لأنَّه أقلُّ مَا يصُدق عليه الاسمُ، وكذا مَنْ نَذَرَ صومًا فصام يومًا أجزأَه، وهو خلافُ مَا ذهب إليه مالكٌ، فإنَّه قال: لا يجزئُه إذا صامَه بالأيَّام إلَّا ثلاثون يومًا، فإن صامَهُ بالهلال فعلى الرؤية، وَفيه أنَّ يوم الشَّكِّ مِنْ شعبان.
          وقال المهلَّب: في الحديث بيانٌ لقوله: (اقْدُرُوا لَهُ) أنَّ معناه إكمالُ العدد ثلاثين يومًا كما تأوَّل الفقهاءُ، ولا اعتبارَ في ذلك بالنُّجوم والحِساب، وهذا الحديثُ ناسخٌ لمراعاةِ النُّجوم بقوانينِ التَّعديل، وإنَّما المعوَّلُ على الرُّؤية للأهلَّة الَّتِي جعلها الله مواقيتَ للنَّاس في الصِّيام والحجِّ والعِدَد والدُّيون، وإنَّما لنا أن ننظر مِنْ علم الحساب مَا يكون عيانًا أو كالعيان، وأمَّا مَا غمُض حتَّى لا يدرَكَ إلَّا بالظُّنون ويكشف الهيئات الغائبة عن الأبصار، فقد نُهينا عنه وعن تكلُّفه، وذلك أنَّ رسول الله _صلعم_ إنَّما بُعث إلى الأمِّيِّين الَّذِين لا يقرؤون الكتب ولا يحسُبون بالقوانين الغائبة، وإنَّما يحسُبون الموجودات عيانًا، وفي الحديث مستَندٌ لمَنْ رأى الحكمَ بالإشارةِ والإيماء كمَنْ قال: امرأته طالقٌ وأشار بأصابعِه الثلاث، فإنَّه يلزمه ثلاثُ تطليقاتٍ.