التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول النبي: إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا

          ░11▒ بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ _صلعم_: (إِذَا رَأَيْتُمُ الهِلاَلَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا).
          وَقَالَ صِلَةُ عَنْ عَمَّارٍ: (مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا القَاسِمِ).
          1906- ثمَّ ذكر حديثَ عبد الله بن عمرَ أنَّ رسول الله _صلعم_ ذكر رمضانَ فقال: (لاَ تَصُومُوا حتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلاَ تُفْطِرُوا حتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ).
          1907- وحديثَه أيضًا: (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلاَ تَصُومُوا حتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلاَثِينَ)
          1908- وحديثَه أيضًا: (الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا. وَخَنَسَ الإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ).
          1909- وحديثَ أبي هُريرةَ: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ / وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ).
          1910- وحديثَ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: (أَنَّ النَّبِيَّ _صلعم_ آَلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، غَدَا أَوْ رَاحَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ حَلَفْتَ أَلَّا تَدْخُلَ شَهْرًا، فَقَالَ: الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِيْنَ يَوْمًا).
          1911- وحديثَ أَنَسٍ: (آلَى رَسُولُ اللهِ _صلعم_ وَكَانَتِ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ، فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ تِسْعًا وَعِشْرِيْنَ لَيْلَةً، ثُمَّ نَزَلَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ آلَيْتَ شَهْرًا، فَقَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِيْنَ).
          الشَّرْحُ: تعليق صلةَ عن عمَّارٍ _وهو ابنُ ياسرٍ_ أخرجه أصحاب «السُّنن الأربعةِ»، وصحَّحه ابن خُزيمةَ وابن حِبَّان والتِّرْمِذيُّ والحاكمُ على شرط الشَّيخين، وَقَالَ الدَّارَقُطْنيُّ: إسنادُه حسنٌ ورجالُه ثقاتٌ، ولا عبرةَ بقول أبي القاسم الجَوهريِّ: إِنَّه موقوفٌ، فقد قَالَ ابْنُ عبدِ البَرِّ: لا يختلفون في إسنادِه، وصِلَةُ هو ابنُ زُفَرَ، ووقع في «كتاب ابن حزمٍ»: ابن أشيَم، وهو غلطٌ.
          وحديثُ ابنِ عمرَ بطُرُقِهِ أخرجه مسلمٌ، وقد سلف، وحديثُ أبي هُريرةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، وحديثُ أمِّ سَلَمَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، وحديثُ أنسٍ مِنْ أفراده.
          وقد سلف فقهُ الباب في باب: هل يُقال رمضان؟ [خ¦1898] [خ¦1900] واضحًا، وحديث أبي هُريرةَ ساقه البخاريُّ عن آدمَ، حدَّثنا شُعْبَةُ، حدَّثنا محمَّدُ بنُ زيادٍ سمعتُ أبا هُريرةَ فذكره، قَالَ الإسماعيليُّ: رواه هكذا، وَفيه: ((فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ)) وقد رُوِّيناهُ عن غُنْدَرٍ وابنِ مَهْدِيٍّ وعددِ جماعاتٍ، كلُّهم عن شُعْبَةَ، لم يذكر أحدٌ مِنْهم ((فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ)) وهذا يجوز أن يكون آدمُ رواه على التَّفسير مِنْ عندِه للخبر، وإلَّا فليس لانفرادِ أبي عبدِ الله عنه بهذا مِنْ بين مَنْ رواه عنه ومِنْ بينِ سائرِ مَنْ ذَكرنا ممَّنْ رَوَى عن شُعْبَةَ وجهٌ، وإن كَانَ المعنى صحيحًا، ورواه المقرئُ عن وَرقاءَ عن شُعْبَةَ على مَا ذكرناه أيضًا، ويحيى بنُ عبد الله بنِ صَيْفِيٍّ ثقةٌ.
          ومعنى: (خَنَسَ الإِبْهَامَ) قَبَضَ، والانخناسُ: الانقباض، وقد يكون الخُنوس لازمًا، وقوله: (الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِيْنَ) أي ربَّما كَانَ كذلك، و(غُبِّيَ) بالباء ورُوي بالميم مِنَ الإغماء، وهو: الإخفاء، وقد سلف، و(يَوْمًا) أراد به معَ ليلته، وَفيه دِلالةٌ لقول ابن عبد الحكم: إِنَّه إذا حَلَفَ لا يكلِّم إنسانًا شهرًا أنَّه يبرُّ بتسعةٍ وعشرين يومًا، وعند مالكٍ: لا يبرُّ إلَّا بثلاثين، و(المَشْرَُبَة) _بضمِّ الرَّاء وفتحها_ الغرفة، وقيل: الخِزانة، والجمع: مشاربُ، ولعلَّ يمينَه كانت في أوَّل النَّهار إن كَانَ الصَّحيحُ قولَه: (غَدَا)، أو في نصفه إن كَانَ الصحيحُ: أو رَاحَ، قاله ابنُ التِّيْنِ، قَالَ التِّرْمِذيُّ: والعملُ على حديثِ عمَّارٍ عندَ أكثرِ أهل العلم مِنَ الصَّحابة والتَّابعين، وبه يقول الثَّوريُّ ومالكٌ وابن المباركِ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ، وكَرهوا أن يُصامَ اليومُ الَّذِي يُشَكُّ فيه، ورأى أكثرُهم أنَّ صيامَه مكانَ يومٍ مِنْ شهرِ رمضانَ أن يقضيَ يومًا مكانه، واحتجَّ القاضي في «شرح الرِّسالة» على أبي حَنِيْفَةَ في تجويزه صومَ يومِ الشكِّ على أنَّه لرمضانَ بحديث ابن عمرَ، وَفيه: ((لَا تَصُومُوا حتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ)) فنهى عن صومه إلَّا بأحد هذين الشَّرطين، فمتى لم يوجدَا أو أحدُهما فيجبُ ألَّا يجزئِه.
          وقد أسلفنا [خ¦1900] أنَّ كافَّة الفقهاء ذهبوا إلى معنى (فَاقْدُرُوا لَهُ) مجملٌ يفسِّره قولُه _صلعم_: ((فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا)) وكذلك جعل مالكٌ في «الموطَّأ» ((فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا)) بعد قوله: ((فَاقْدُرُوا لَهُ)) كما صنع البخاريُّ؛ لأنَّه مفسِّرٌ ومُبيِّنٌ لمعنى قوله: (فَاقْدُرُوا لَهُ)، وحكى ابنُ سِيرينَ أنَّ بعض التابعين كَانَ يذهبُ في معناه إلى اعتباره بالنُّجوم ومنازلِ القمر وطريقِ الحسابِ وقد سلف [خ¦1900].
          والحديثُ نصَّ أنَّه لم يُرِدِ اعتبارَ ذلك بالنُّجوم والمنازل؛ لأنَّه لو كلَّف ذلك أمَّته لشقَّ عليهم؛ لأنَّه لا يَعرف النُّجومَ والمنازلَ إلَّا قليلٌ مِنَ النَّاس، ولم يجعلِ الله _تعالى_ في الدِّين مِنْ حَرَجٍ، وإنَّما أحال على إكمال الثَّلاثين يومًا وهو شيءٌ يستوي في معرفته الكلُّ، وقد انضاف إلى أمرِه باعتبارِ ثلاثينَ عند عدمِ الرُّؤية بفعلِه في نفسِه، فعن عائشةَ: كَانَ _صلعم_ يتحفَّظ مِنْ شعبانَ مَا لا يتحفَّظ مِنْ سائرِ الشُّهور، وإذا رآه صام، وإن غُمَّ عَدَّ شعبانَ ثلاثين وصام، ولو كَانَ هاهنا علمٌ آخرُ لكان يفعلُه أو يأمرُ به.
          وجمهورُ الفقهاءِ على ألَّا يصامَ رمضانُ إلَّا بيقينٍ مِنْ خروج شعبانَ، إمَّا بالرُّؤيةِ وإمَّا بإكمالِ شعبانَ ثلاثين، وكذلك لا يقضى بخروجِ رمضانَ إلَّا بيقينٍ مثلِه؛ لأنَّه ممكنٌ في الشَّهر أن يكون ناقصًا، فالرُّؤية تصحِّح ذلك وتوجب اليقينَ، وإلَّا فإكمالُ العددِ ثلاثين يقينًا، هذا معنى قوله: (فَاقْدُرُوا لَهُ) عندَ العلماء، ولابن عمرَ فيه تأويلٌ شاذٌّ لم يتابَع عليه كما سيأتي في باب: صيام يوم الشَّكِّ [خ¦1914].
          وأمَّا حديث: (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) له، فإنَّ معناه كما قَالَ الطَّبَرِيُّ: الشَّهر الَّذِي نحن فيه أو الَّذِي قد علمتم إخباري عنه؛ لأنَّ الألف واللَّام إنَّما تُدْخِلُها العربُ في الأسماء إمَّا لمعهودٍ قد عرفه المُخبِرُ والمخبَرُ، وإمَّا للجنس العامِّ مِنَ الشَّهر، ومعلوم أنَّه _صلعم_ لم يقصِدْ في ذلك الخبرَ عن الجنسِ العامِّ؛ لأنَّه لو كَانَ كذلك لم يقلْ: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ) فأحال على الرُّؤية، ونحن نرى الشَّهر يكون مرَّةً ثلاثين ومرَّةً تسعًا وعشرين، فعُلم أنَّ قوله: (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) أنَّ ذلك قد يكون في بعض الأحوال، وقد / رَوَى البخاريُّ بعده عَنِ ابْنِ عمر مرفوعًا: ((إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا)) يعني: مرَّةً ناقصًا ومرَّةً كاملًا، ورُوي عن عُرْوَةَ، عن عائشةَ أنَّها أنكرت قولَ مَنْ قَالَ إنَّه _صلعم_ قال: الشَّهر تسعٌ وعشرون، لا والله مَا قَالَ كذلك، إنَّما قَالَ حين هَجَرَنا: ((لَأَهْجُرَنَّكُم شَهْرًا)) وأقسم على ذلك، فجاءنا حين ذهب تسعٌ وعشرون ليلةً، فقلت: يا نبيَّ الله، إنك أقسمت شهرًا، فقال: ((إِنَّ الشَّهرَ كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِيْنَ لَيْلَةً)).