التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: متى يقضى قضاء رمضان؟

          ░40▒ بَابٌ: مَتَى يُقْضَى قَضَاءُ رَمَضَانَ؟
          وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يُفَرَّقَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185].
          وَقَالَ ابنُ المُسَيِّبِ فِي صَوْمِ العَشْرِ: لَا يَصْلُحُ حَتَّى يَبْدَأَ بِرَمَضَانَ.
          وَقَالَ إِبْرَاهِيْمُ: إِذَا فَرَّطَ حَتَّى جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ يَصُومُهُمَا، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ طَعَامًا.
          وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُرْسَلًا وَابنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ يُطْعِمُ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللهُ الإِطْعَامَ، إِنَّمَا قَالَ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184].
          1950- ثُمَّ سَاقَ حَدِيْثَ عَائِشَةَ: (كَانَ يَكُوْنُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ)، قَالَ يَحْيَى: الشُّغْلُ مِنَ النَّبِيِّ أَوْ بِالنَّبِيِّ صلعم.
          الشَّرْحُ: أَثَرُ ابنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيْثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ عَنْهُ: فِيْمَنْ عَلَيْهِ قضاءُ شَهْرِ رَمَضَانَ يقضيهِ مُفَرَّقًا، فإنَّ الله تَعَالَى قَالَ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185].
          وأَثَرُ ابنِ المُسَيِّبِ أَرَادَ بِهِ أنَّ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ أَوْلَى مِنَ التَّطَوُّعِ، وقَدْ رَوَى ابنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدَةَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيْدٍ: أنَّه كَانَ لَا يَرَى بأسًا أنْ يُقضَى رَمَضَانُ فِي العَشْرِ، وقَدْ أخرجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلعم: أنَّه كَانَ لَا يَرَى بأسًا بقَضَاءِ رَمَضَانَ فِي عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَهُ مَوْقُوْفًا أَيْضًا، وعَن الحَارِثِ عَنْ عليٍّ مَرْفُوْعًا: ((لَا يُقْضَى رَمَضَانُ فِي عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ))، ثُمَّ قَالَ: الموقوفُ أَصَحُّ، زَادَ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ: ((فَإِنَّهُ شَهْرُ نُسُكٍ))، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا بَأْسَ أن يَصُومَها فِي العَشْرِ، وعَنْ إِبْرَاهِيْمَ وابنِ المُسَيِّبِ مثلُه، وعَنْ عَطَاءٍ وطَاوُسٍ ومجاهدٍ: اقْضِ رَمَضَانَ مَتَى شِئْتَ.
          وقَالَ سَعِيْدُ بنُ جُبَيْرٍ: لَا بَأْسَ بِهِ، يَعْنِي: فِي العَشْرِ، وعَنِ الحَسَنِ: أنَّه كَرِهَهُ، وقَالَ ابنُ المُنْذِرِ: اختُلِفَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ فِي ذِي الحِجَّةِ فكَانَ ابنُ المُسَيِّبِ والشَّافِعِيُّ وغيرُهما يَقُولُونَ: ذَلِكَ جائزٌ إلَّا أَيَّامَ النَّهيِ، ورُوِّيْنَا عَنْ عليٍّ أنَّه كَرِهَهُ وبِهِ قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ، قَالَ: وجوازُها أَولَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] إلَّا يَومَ النَّحرِ وأَيَّامَ التَّشرِيقِ.
          وقولُه: ((وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ)) إِلَى آخِرِهِ، يَعْنِي: أنَّه رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُرْسَلًا، وابنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوْفًا، وذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ حديثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا مِنْ طَرِيْقِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ _ولم يَسْمَعْ مِنْهُ فِيْمَا ذَكَرَهُ البَرْدِيْجِيُّ_ ولَعَلَّ هَذَا مُرَادُ البُخَارِيِّ بالإرسالِ.
          ولفظُه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلعم: فِي رَجُلٍ أَفْطَرَ فِي شهرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ صَحَّ ولَمْ يَصُمْ ثُمَّ أَدركَهُ رَمَضَانُ، قَالَ: ((يَصُومُ الَّذِي أَدْرَكَهُ، ثُمَّ يَصُومُ الشَّهْرَ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ، وَيُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِيْنًا))، ثُمَّ قَالَ: إِبْرَاهِيْمُ بنُ نَافِعٍ وابنُ وَجِيْهٍ ضَعِيفَانِ، ورَوَاهُ مِنْ طريقِ مجاهدٍ وعَطَاءٍ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوْفًا، وقَالَ: فِي كلٍّ منهما إسنادٌ صحيحٌ موقوفٌ، وفي طريقِ عَطَاءٍ: ((مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ))، ومِنْ طَرِيْقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوْفًا: ((يُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِيْنًا))، ولِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيْثِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ: ((وَيَقْضِيهِ))، ثُمَّ قَالَ: ورُوِّيْنَا عَنِ ابنِ عُمَرَ وأَبِي هُرَيْرَةَ فِي الَّذِي لم يصحَّ حَتَّى أدركَهُ رَمَضَانُ آخَرُ: يُطعِمُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وعَنِ الحَسَنِ وطَاوُسٍ والنَّخَعِيِّ: يَقضِي ولَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
          وحديثُ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، ويَحْيَى هُوَ ابنُ سَعِيدٍ كَمَا أَخْرَجَهُ ابنُ مَاجَهْ مُصَرَّحًا بِهِ، وجَزَمَ بِهِ عَبْدُ الحَقِّ فِي «جَمْعِهِ»، وجَزَمَ الضِّيَاءُ بأنَّه يَحْيَى القَطَّانُ، وقِيْلَ: يَحْيَى بنُ أبي كَثيرٍ، حَكَاهُ ابنُ التِّيْنِ وهما غريبانِ، ولِلتِّرْمِذِيِّ مُصَحَّحًا: مَا كُنْتُ أَقضِي مَا عليَّ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا فِي شَعْبَانَ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلعم.
          إِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فالإجماعُ قائمٌ عَلَى أنَّ مَنْ قَضَى مَا عَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ فِي شَعْبَانَ بعدَه أنَّه مُؤَدٍّ لفَرْضِهِ غَيْرُ مُفَرِّطٍ.
          واختَلَفُوا فِي جَوَازِ قَضَائِهِ مُتَفَرِّقًا فَقَالَتْ طائفةٌ: لا بَلْ متتابعًا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وابنِ عُمَرَ وعَائِشَةَ، وبِهِ قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ والنَّخَعِيُّ والشَّعْبِيُّ ونَافِعُ بنُ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ ومُحَمَّدُ بنُ سِيرِينَ وعُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ، وهُوَ قَوْلُ أهلِ الظَّاهِرِ، وقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجُوزُ أنْ يُقضَى مُتَفَرِّقًا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ وأَبِي هُرَيْرَةَ وأَنَسٍ ومُعَاذٍ وحُذَيْفَةَ ورَافِعِ بنِ خَدِيْجٍ، وهُوَ قَوْلُ جماعةِ أَئِمَّةِ الأمصارِ منهم الأربعةُ، وعَدَّدَ ابنُ أَبِي حاتِمٍ فِي «تفسيرِه» منهم فوقَ الثَّلاثينَ مِنَ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِيْنَ وأتباعِهم، وفِيْهِ حديثٌ مُرسَلٌ، وحُجَّةُ الجماعةِ ظاهرةٌ فإِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: ((نَزَلَ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184-185] مُتَتَابِعَاتٍ فَسَقَطَتْ مُتَتَابِعَاتٌ))، قُلْتُ: قَدْ أَخبَرَتْ بسُقُوطِهَا فَلَا حُكْمَ لَهَا حَتَّى تَثْبُتَ القراءةُ وذَلِكَ حُجَّةٌ لَنَا.
          ونَاقَضَ ابنُ حزمٍ فَادَّعَى الوُجُوبَ لِقَوْلِهِ: {وَسَارِعُوا} [آل عمران:133] ثمَّ قَالَ: فإنْ لم يفعلْ فَيَقضِيهَا مُتَفَرِّقَةً؛ لِقَوْلِهِ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولَمْ يَحُدَّ لَهُ حَدًّا، وقَالَ أَبُو عُمَرَ فِي «استذكارِه»: رَوَى مالكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ: أنَّه كَانَ يَقُولُ بِهِ، يَصُومُ قَضَاءَ رَمَضَانَ متتابعًا مَنْ أَفْطَرَ مِنْ مَرَضٍ أو سَفَرٍ، وعَنِ ابنِ شِهَابٍ: أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ وأَبَا هُرَيْرَةَ: اختَلَفَا فَقَالَ أحدُهما: يُفَرَّقُ، وَقَالَ الآخَرُ: لَا يُفَرَّقُ، وعَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ، سَمِعَ ابنَ المُسَيِّبِ يَقُولُ: أَحَبُّ إليَّ ألَّا يُفَرَّقَ قَضَاءُ رَمَضَانَ وإنْ تَوَاتَرَ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: صَحَّ عندنا عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ وأَبِي هُرَيْرَةَ أنَّهما أَجَازَا أنْ يُفَرَّقَ قَضَاءُ رَمَضَانَ. وصَحَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ إسنادَ حديثِ عَائِشَةَ: ((نَزَلَتْ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مُتَتَابِعَاتٍ فَسَقَطَتْ مُتَتَابِعَاتٌ))، وقَالَ ابنُ قُدَامَةَ: لم يَثْبُتْ عندنا صِحَّتُهُ، ولو صَحَّ فَقَدْ سَقَطَتِ اللَّفظَةُ وهِيَ لَا يحتجُّ بِهَا، وإنْ صَحَّ حملناهُ عَلَى الاستحبابِ والأفضليَّةِ.
          وقَالَ غيرُه: لو ثَبَتَ كَانَتْ منسوخةً لفظًا وحكمًا؛ ولِهَذَا أَنَّه لم يقرأْ بِهِ فِي الشَّوَاذِّ، وادَّعَى القُرْطُبِيُّ أنَّها قراءةٌ فِي قراءةِ ابن مَسْعُوْدٍ. وحديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا: ((مَنْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ / فَلْيَسْرُدْهُ وَلَا يُقَطِّعْهُ)) أَنْكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ عَلَى روايةِ عبدِ الرَّحمَنِ بنِ إِبْرَاهِيْمَ القَاصِّ، واختَلَفَ العُلَمَاءُ فِي المسافرِ والمريضِ إِذَا فَرَّطَ فِي قضاءِ رَمَضَانَ حَتَّى جَاءَ رَمَضَانُ آخرُ، فَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وابنِ عَبَّاسٍ أنَّه يَصُومُ الَّذِي حَصَلَ فِيْهِ فَإِذَا خَرَجَ قَضَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وعَلَيْهِ الفِدْيَةُ، وهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ والقَاسِمِ والزُّهْرِيِّ ومَالِكٍ والأَوْزَاعِيِّ والثَّوْرِيِّ والشَّافِعِيِّ وأَحْمَدَ وإِسْحَاقَ، وقَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ وأصحابُه: لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا القَضَاءُ فقطْ وَلَا إطعامَ عَلَيْهِ، وحَكَاهُ البُخَارِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيْمَ _وهُوَ النَّخَعِيُّ_ وقَالَ سَعِيْدُ بنُ جُبَيْرٍ وقَتَادَةُ: يُطْعِمُ ولَا يَقضِي، وحُجَّة مَنْ قَالَ بالإطعامِ مَا حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عن يَحْيَى بن أَكْثَمَ قَالَ: فَتَّشْتُ عَنْ أقاويلِ الصَّحَابَةِ فِي هَذِهِ المسألةِ فوَجَدْتُ عَنْ سِتَّةٍ منهم قَالُوا: عَلَيْهِ القَضَاءُ والفِدْيَةُ ولَمْ أَجَدْ لهم مُخَالِفًا.
          فإنْ قُلْتَ: فالشَّارِعُ أَمَرَ الوَاطِئَ فِي رَمَضَانَ بالقَضَاءِ عَلَى مَا وَرَدَ كَمَا مَضَى ولَمْ يذكرْ لَهُ حَدًّا، قُلْتُ: قَدْ حَدَّتْهُ عَائِشَةُ هُنَا إِلَى شَعْبَانَ فعُلِمَ أنَّه الوقتُ المُضَيَّقُ، فَإِذَا ثَبَتَ أنَّ للقَضَاءِ وقتًا يُؤَدَّى فِيْهِ ويَفُوتُ ثَبَتَتِ الفِدْيَةُ لِأَنَّهُ يُشْبهُ الحجَّ الَّذِي يَفُوتُ وقتُه، أَلَا تَرَى أنَّ حَجَّةَ القَضَاءِ إِذَا دَخَلَ فِيْهَا وفَاتَتْ وَجَبَ الدَّمُ؟ فكَذَا إِذَا فَاتَ الصَّومُ وَجَبَتِ الفِدْيَةُ، واختَلَفُوا فِيْمَا يَجِبُ عَلَيْهِ إنْ لم يصحَّ مِنْ مرضِه حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ المُقبِلُ، فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ وابنُ عُمَرَ وسَعِيْدُ بن جُبَيْرٍ: يَصُومُ عَنِ الثَّانِي ويُطْعِمُ عَنِ الأوَّلِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وقَالَ الحَسَنُ والنَّخَعِيُّ وطَاوُسٌ والأَوْزَاعِيُّ والثَّورِيُّ والأَرْبَعَةُ وإِسْحَاقُ: يَصُومُ الثَّانِي ويَقضِي الأَوَّلَ ولَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يُفَرِّطْ.
          تَنْبِيْهَاتٌ: أَحَدُهَا: إنَّما حَمَلَ عَائِشَةَ ♦ عَلَى قَضَاءِ رَمَضَانَ فِي شَعْبَانَ الأَخْذُ بالرُّخْصَةِ والتَّوسِعَةِ؛ لأنَّ مَا بينَ رَمَضَانِ عَامِهَا ورَمَضَانِ العَامِ المُقْبِلِ وقتٌ للقَضَاءِ، كَمَا أنَّ وقتَ الصَّلَاةِ لَهُ طرفانِ، ومثلُه قولُه ◙: ((لَيْسَ التَّفْرِيطُ فِي النَّوْمِ إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي اليَقَظَةِ أَنْ تُؤَخِّرَ صَلَاةً حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى)).
          وقَدْ بَيَّنَتِ السَّبَبَ المُقتَضِي للتَّأجِيلِ وهُوَ الشُّغْلُ برَسُولِ اللهِ صلعم هَذَا مَحَلُّ الرَّفْعِ وهُوَ الاستمتاعُ أَوِ التَّصَرُّفُ فِي حَوَائِجِهِ، ووَرَدَ أنَّها قَالَتْ: كَانَتْ كلُّ واحدةٍ مِنْهُنَّ مُهَيِّئةً نَفسَهَا لِرَسُوْلِ اللهِ صلعم مُرْصِدَةً لاستمتاعِهِ فِي جميعِ أوقاتِها إن أَرَادَ ذَلِكَ، ولَا تَدرِي مَتَى يُرِيدُه، ولَمْ تستأذنْه فِي الصَّومِ مخافةَ أنْ يأذنَ، وقَدْ يكونُ لَهُ حاجةٌ فِيْهَا فتُفَوِّتُهَا عَلَيْهِ وهذا مِنْ أَدَبِهِنَّ، وقَد اتَّفَقَ العلماءُ عَلَى أنَّ المرأةَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا صَومُ التَّطَوُّعِ وبَعْلُهَا حاضرٌ إلَّا بِإِذْنِهِ؛ لحديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتِ فِي «مسلمٍ»: ((وَلَا تَصُومُ إِلَّا بِإِذْنِهِ))، وصَومُهَا مِنْ شَعْبَانَ إنَّما كَانَ لِأَنَّهُ كَانَ يَصُومُ معظمَ شَعْبَانَ، وفي «عِلَلِ ابنِ أَبِي حَاتِمٍ»: فَمَا أَقْضِيهَا إلَّا فِي شَعْبَانَ مِنَ العَامِ المقبلِ، وكَانَ صلعم يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا، قَالَ أَبِي: هَذِهِ الكلمةُ الأخيرةُ: كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إلَّا قليلًا، لم يَرْوِها غيرُ ابنِ إِسْحَاقَ. قَالَ البَاجِيُّ فِي «منتقاهُ»: والظَّاهِرُ أنَّه لَيْسَ للزَّوجِ جَبرُها عَلَى تأخيرِ القَضَاءِ إِلَى شَعْبَانَ بخلافِ صَومِ التَّطَوُّعِ. ونَقَلَ القُرْطُبِيُّ عَنْ بعضِ أشياخِه أنَّ لَهَا أنْ تَقضِيَ بغيرِ إذنِه لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، ويُحمَلُ الحديثُ عَلَى التَّطَوُّعِ.
          ثَانِيْهَا: قَالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ: أجمعَ العلماءُ عَلَى أنَّ مَنْ قَضَى مَا عَلَيْهِ مِنْ أيَّامِ رَمَضَانَ فِي شَعْبَانَ بعدَه فَهُوَ مُؤَدٍّ لفَرْضِهِ غيرُ مُفَرِّطٍ، قُلْتُ: وحديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا: ((مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ وَعَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَقْضِهِ، لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ، وَمَنْ صَامَ تَطَوُّعًا وَعَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ لَمْ يَقْضِهِ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ)) ضعيفٌ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ ابنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي «عِلَلِهِ».
          ثَالِثُهَا: الإطعامُ فِي ذَلِكَ مُدٌّ لِكُلِّ مِسْكِيْنٍ عندَ جمهورِ القائلينَ بِهِ، وقَالَ أَشْهَبُ: يُطْعِمُ فِي غيرِ المدينةِ مُدًّا ونصفًا وهُوَ قَدْرُ شِبَعِ أهلِ مِصْرَ، وقِيْلَ: إنَّه استحبابٌ، وقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُطْعِمُ نصفَ صاعٍ.
          رَابِعُهَا: لو مَنَعَهُ مانعٌ مِنْ قَضَائِهِ بعدَ الإمكانِ فلا شيءَ عَلَيْهِ عندَ البَغدَادِيِّينَ مِنَ المَالِكِيِّينَ، وقِيْلَ: إنَّه مَعنَى مَا فِي «المُدَوَّنَةِ» وفي روايةِ عِيْسَى: نعم. وعَنْ مَالِكٍ: أنَّه إِذَا استَمَرَّ المرضُ إِلَى الموتِ يُطْعَمُ عَنْهُ، وقَالَ ابنُ الْمَاجِشُوْنِ: إِذَا غُلِبَ عَنْهُ حَتَّى جَاءَ رَمَضَانُ آخرُ كَفَّرَ، حَكَاهُ ابنُ التِّيْنِ عنهم.
          خَامِسُهَا: قَالَ الخَطَّابِيُّ: إنَّ للزَّوجِ مَنْعَ زَوجَتِهِ مِنَ الخُرُوجِ إِلَى الحَجِّ؛ قَالَ ابنُ التِّيْنِ: يُرِيدُ حَجَّ النَّافِلَةِ، قُلْتُ: لَا بَلْ لَهُ أن يمنعَها مِنْ حَجِّ الفَرْضِ عَلَى الأَصَحِّ مِنْ مذهبِ الشَّافِعِيِّ.