التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب صوم الدهر

          ░56▒ بَابُ صَوْمِ الدَّهْرِ
          1976- ذَكَرَ فِيْهِ حَدِيْثَ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو قَالَ: (أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صلعم أَنِّي أَقُولُ: وَاللهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ...) إِلَى آخِرِ الحديثِ، وفي آخِرِه (لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ) مَرَّتَيْنِ.
          وقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، وفِيْهِ: أنَّ التَّألِّيَ عَلَى اللهِ تَعَالَى فِي أَمْرٍ لَا يَجِدُ مِنْهُ سَعَةً ولَا إِلَى غيرِه سبيلًا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، كَمَا نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم عبدَ اللهِ بنَ عَمْرٍو عَمَّا تَأَلَّى فِيْهِ مِنْ قِيَامِ اللَّيلِ وصِيَامِ النَّهَارِ، وكَذَا مَنْ حَلَفَ: لَا يَتَزَوَّجُ ولَا يأكلُ ولَا يشربُ، فهَذَا كلُّه غيرُ لازمٍ عندَ أهلِ العلمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التَّحريم:1]، وللَّذِي حَلَفَ ألَّا يَنْكِحَ أَنْ يَنْكِحَ، كذلكَ سَائِرُ المُحْرِجَاتِ الشَّامِلَةِ مُبَاحٌ لَهُ إتيانُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يمينٍ.
          وفِيْهِ: أنَّ التَّعَمُّقَ فِي العبادةِ والإجهادَ للنَّفْسِ مَكْرُوهٌ؛ لِقِلَّةِ صبرِ البَشَرِ عَلَى التزامِها، لا سِيَّمَا فِي الصِّيَامِ الَّذِي هُوَ إضعافٌ للجسمِ، وقَدْ رخَّصَ اللهُ تَعَالَى فِيْهِ فِي السَّفَرِ لإدخالِ الضَّعْفِ عَلَى مَنْ تَكَلَّفَ مَشَقَّةَ الحِلِّ والتَّرْحَالِ، فكيفَ إِذَا انضافَ ذَلِكَ إِلَى مَنْ كَلَّفَه اللهُ قِتَالَ أعدائِه الكافرينَ حَتَّى تكونَ كلمةُ اللهِ هِيَ العُليَا؟ أَلَا تَرَى أنَّه ◙ قَالَ ذَلِكَ فِي الحَدِيثِ عَنْ دَاوُدَ: ((وَكَانَ لَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى)) أي أنَّه أَبقَى لنفسِه قُوَّةً؛ لِئَلَّا تَضْعُفَ نفسُه عندَ المُدَافَعَةِ واللِّقَاءِ.
          وقَدْ كَرِهَ قومٌ مِنَ السَّلَفِ صَومَ الدَّهْرِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابنِ عُمَرَ وابنِ مَسْعُوْدٍ وأَبِي ذَرٍّ وسَلْمَانَ، وعَنْ مَسْرُوقٍ وابنِ أَبِي لَيْلَى وعبدِ اللهِ بنِ شَدَّادٍ وعَمْرِو بنِ مَيمُونٍ، واعتَلُّوا بِقَوْلِهِ فِي صِيَامِ دَاوُدَ: (لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ) وغيرِه كَمَا سَلَفَ، وقَالُوا: إنَّما نَهَى عَنْ صَومِ الأَبَدِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الإضرارِ بالنَّفْسِ والحَمْلِ عَلَيْهَا فِي مَنْعِها مِنَ الغِذَاءِ الَّذِي هُوَ قَوَامُهَا وقُوَّتُهَا عَلَى مَا هُوَ أفضلُ مِنَ الصَّوْمِ كصَلَاةِ النَّافِلَةِ وقراءةِ القرآنِ والجهادِ وقَضَاءِ حَقِّ الزَّورِ والضَّيفِ.
          وقَدْ أَخبَرَ الشَّارِعُ بِقَوْلِهِ: فِي صَومِ دَاوُدَ: ((وَكَانَ لَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى)) أنَّ مِنْ فَضْلِ صَومِه عَلَى غيرِه إنَّما كَانَ مِنْ أجلِ أنَّه لَا يَضْعُفُ عَنِ القِيَامِ بالأعمالِ الَّتِي هِيَ أفضلُ مِنَ الصَّومِ، وذَلِكَ بثُبُوتِه لحربِ الأعداءِ عندَ الْتِقَاءِ الزُّحُوفِ، وتَرْكِهِ الفِرَارَ منهم؛ فكَانَ إِذْ قَضَى لصَومِ دَاوُدَ بالفَضْلِ عَلَى غيرِه مِنْ مَعَانِي الصِّيَامِ، قَدْ بَيَّنَ أنَّ كلَّ مَنْ كَانَ صَومُه لَا يُوْرِثُه ضَعْفًا عَنْ أَدَاءِ الفَرَائِضِ، وعَمَّا هُوَ أفضلُ مِنْ صَومِه ذَلِكَ مِنْ ثِقَلِ الأعمالِ وهُوَ صَحِيحُ الجسمِ، غيرُ مكروهٍ لَهُ صَومُه ذلكَ، وكلُّ مَنْ أَضْعَفَهُ صَومُه النَّفْلَ عَنْ أَدَاءِ شيءٍ مِنَ الفَرَائِضِ فغيرُ جائزٍ لَهُ صَومُه، بَلْ هُوَ محظورٌ عَلَيْهِ، فإنْ لم يُضْعِفْهُ عَنْهَا وأَضْعَفَهُ عَمَّا هُوَ أفضلُ مِنْهُ مِنَ النَّوَافِلِ، فإنَّ صَومَه مكروهٌ وإنْ كَانَ غيرَ آثِمٍ.
          وكَانَ ابنُ مَسْعُوْدٍ يُقِلُّ الصَّومَ، فَقِيْلَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ: إنِّي إِذَا صُمْتُ ضَعُفْتُ عَنِ الصَّلَاة وهِيَ أَحَبُّ إليَّ مِنْهُ، وكَانَ أَبُو طَلْحَةَ لَا يَكَاُد يَصُومُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم مِنْ أجلِ الغَزْوِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ مَا رأيتُه يُفْطِرُ إلَّا يومَ فِطْرٍ أو أَضْحَى، وصَحَّحَه الحاكمُ، وقَدْ سَرَدَ ابنُ عُمَرَ الصِّيامَ قَبْلَ مَوْتِه بسنتينِ، وسَرَدَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ وأَبُو أُمَامَةَ البَاهِلِيُّ وعبدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو وحَمْزَةُ بنُ عَمْرٍو وعَائِشَةُ وأمُّ سَلَمَةَ وأَسمَاءُ بنتُ الصِّدِّيقِ وعبدُ اللهِ وعُرْوَةُ ابنا الزُّبَيْرِ وأَبُو بَكْرِ بنُ عبدِ الرَّحمَنِ وابنُ سِيرِينَ، وقَالُوا: مَنْ أَفْطَرَ الأَيَّامَ المَنْهِيَّ عَنْ صَومِها فَلَيْسَ بدَاخِلٍ فِيْمَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ صَومِ الدَّهْرَ.
          وحَمَلَ بعضُهم النَّهْيَ عَنْهُ لِمَنْ تَضَرَّرَ بِهِ، وأَيَّدَهُ بروايةِ أَبِي قِلَابَةَ: أنَّ امرأةً صَامَتْ حَتَّى مَاتَتْ؛ فَقَالَ ◙: ((لَا صَامَتْ وَلَا أَفْطَرَتْ))، ومَنْ صَامَ حَتَّى بَلَغَ بِهِ الصَّومُ هَذَا الحَدَّ فلَا شَكَّ أنَّه بصَومِه ذَلِكَ آثِمٌ. / وفي «صَحِيحِ ابنِ حِبَّانَ» مِنْ حَدِيْثِ أَبِي مُوْسَى الأشعريِّ مَرْفُوْعًا: ((مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّم)) وضَمَّ أَصَابِعَه هَكَذَا عَلَى تِسعِينَ، قيلَ: هُوَ مَدْحٌ، وقِيْلَ: ذَمٌّ كَمَا أوضحتُه فِي «التُّحفَةِ»، وفي «ابنِ مَاجَهْ» بإسنادٍ فِيْهِ ابنُ لَهِيْعَةَ مِنْ حَدِيْثِ ابنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا: ((صَامَ نُوحٌ الدَّهْرَ إِلَّا يَوْمَينِ الأَضْحَى وَالفِطْرَ)).
          فَرْعٌ: قَالَ القَاضِي والمُتَوَلِّي: صَومُ دَاوُدَ أفضلُ مِنْ صَومِ الدَّهْرِ، وفي كَلَامِ غيرِهما إشارةٌ إِلَى تفضيلِ السَّرْدِ، وتخصيصُ هَذَا بابنِ عَمْرٍو ومَنْ فِي معناهُ تقديرُه لَا أفضلَ مِنْ هَذَا فِي حَقِّكَ، يُؤَيِّدُ هَذَا أنَّه لم يَنْهَ حَمْزَةَ بنَ عَمْرٍو عَنِ السَّرْدِ، ولَو كَانَ مَا قَالَهُ لابنِ عَمْرٍو أفضلَ فِي حَقِّ كلِّ النَّاسِ لأَرْشَدَ حَمْزَةَ إِلَيْهِ وبَيَّنَهُ لَهُ.
          وقَالَ الغَزَالِيُّ فِي «الإِحيَاءِ» بعدَ أنْ قَرَّرَ استحبابَ صَومِ الدَّهْرِ: ودُونَه مرتبةٌ أُخْرَى وهِيَ صَومُ نِصْفِه. كَذَا ذُكِرَ، وهُوَ أَشَدُّ عَلَى النَّفْسِ، ومَنْ لَا يَقدِرُ عَلَى ذَلِكَ فليَصُمْ ثُلُثَهُ، وهُوَ أنْ يَصُومَ يَوْمًا ويُفْطِرَ يومينِ، فإِذَا صَامَ ثلاثةً مِنْ أوَّلِ الشَّهرِ وثلاثةً مِنْ وَسَطِهِ، وثلاثةً مِنْ آخِرِهِ فَهُوَ ثُلُثٌ واقعٌ فِي الأوقاتِ الفاضلةِ، فإنْ صَامَ الاثنينَ والخميسَ والجمعةَ فَهُوَ قريبٌ مِنَ الثُّلُثِ.