التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب وجوب صوم رمضان

          ░1▒ بابُ: وجوبِ صَومِ رمضانَ.
          وقولِ اللهِ _تعالى_: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
          معنى: (كُتِبَ) فُرِضَ كما فِي قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178]. أيْ: فُرِضَ، وقِيْلَ: إنَّه كَانَ فُرِضَ على النَّصارى فنَقلوه عنْ وَقْتِه مِنَ الحَرِّ إلى الرَّبِيعِ وزادُوا فيه، حكاهُ الزَّجاجُ وتَوقَّف فيه، لكنَّه مَرْوِيٌّ عنِ الشَّعْبِيِّ وأنَّه زِيدَ فيه إلى خَمسين، وهُمْ أُمَّةُ عِيسى كما ذَكرَهُ ابنُ عبَّاس في «تفسيره».
          وقِيلَ: التَّشبيه إنَّما هوَ مِنْ أجْلِ صَومِهم؛ كانَ العِشاءَ الآخِرةَ إلى مِثْلِها، وكان ذلك فُرِضَ على المؤمنين في أوَّل مَا افتُرِض عليهم الصَّومُ، قَالَ السُّدِّيُّ: كُتِبَ على النَّصارى، وألَّا يأكلوا ولا يَشرَبوا بعدَ النَّوم ولا يَنكِحوا النِّساء شهرَ رمضانَ، فاشتدَّ ذلك على النَّصارى، وجَعَلَ يَتقلَّب عليهم في الشِّتاء والصَّيف، فَلَمَّا رأَوا ذلك اجتَمَعوا فجَعَلوا صيامًا في الفصلِ مِنَ الشِّتاء والصَّيف، وقالوا: نَزيدُ عشرين يومًا نكفِّرُ بِهَا مَا صَنعنا، فجُعلَ صيامُهم خَمْسِيْنَ يومًا، فلم يزلِ المُسلمونَ على ذلك يَصنَعون حتَّى كان مِنْ أمرِ قيسِ بنِ صِرْمَةَ وعمَرَ مَا كان، فأحلَّ الله _تعالى_ لهم الأكلَ والشُّربَ والجِماعَ إلى طُلوعِ الفجْرِ.
          وَقَالَ الحسنُ فيما ذَكرَه ابنُ أبي حاتمٍ في «تفسيره»: واللهُ قدْ كتبَ الصِّيامَ على كُلِّ أُمَّةٍ خَلَت كما كَتبَه علينا شهرًا كاملًا، وإليه نحا الزَّمَخْشريُّ فِي قوله: آدمُ فمَنْ دونَه، فعَلِمْنا أنَّ الصَّومَ عِبادةٌ قديمةٌ لمْ تخْلُ مِنْهَا أُمَّةٌ، وقوله: ({لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}) أي: بالمحافظَةِ عليها، أو تَنتَظِمون في سِلْكِ المُتَّقِين؛ فإنَّ الصَّومَ مِنْ شِعارِهم، ورُوي أنَّ صِرْمَةَ بنَ مالكٍ كان شيخًا كبيرًا جاءَ إلى أهلِه وهو صائمٌ فدعا بعَشائه فقالوا: أَمْهِلْ حتَّى نَجعلَ لَكَ طعامًا سُخْنًا تُفْطِرُ عليه فنامَ، فجاؤوا بطعامِه، فقال: قدْ كنتُ نمتُ، فباتَ جائعًا، فنَزلتِ الآيةُ، وجاءَ عمرُ لأهله فقالت: إنَّها قدْ كانت نامت، فظنَّ أنَّها اعتَلَّت عليه فواقَعها، وفعَلَ مِثلَ ذلك كعبُ بنُ مالكٍ فنَزلت: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187].
          1891- ذَكَرَ فيه حديثَ طلحةَ بنِ عُبيدِ اللهِ (أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ _صلعم_ ثَائِرَ الرَّأْسِ) الحديث، وسَلَف في الإيمان في باب: الزَّكاةُ مِنَ الإسلامِ [خ¦46].
          وَفيه أنَّ أداءَ الفرائضِ يوجِبُ الجَنَّةَ، وأنَّ عمَلَ السُّننِ والرَّغائبِ يوجبُ الزِّيادةَ في الجَنَّة بفضله.
          وَفيه عنْ أبي سُهيلٍ عنْ أبيه، وأبو سُهيلٍ نافعُ بنُ مالكِ بنِ أبي عامرٍ، ولم يُذكَرِ الحجُّ فيه؛ لأنَّه لم يُفرَضْ حينئذٍ ولا الجهادُ لأنَّه لم يَكنْ على الأعراب فرْضًا.
          وَفيه اليمينُ على تركِ فعلِ الطَّاعة المندوبِ إليها وهو مكروهٌ، لكنَّه _◙_ سَكتَ إمَّا لأنَّه حديثُ عهدٍ بالإسلامِ فلا يُنفِّرُه، أو لأنَّه أخبرَ أنَّه لا يَنْقُصُ مِنَ الفرائضِ ولا يَزيدُ فيها فإذا أتى بِهَا على أكملِ أحوالِها لمْ يحتجْ إلى النَّوافلِ، ومعنى: (وَلاَ أَنْقُصُ) أيْ: مِمَّا فرضَ الله عليَّ.
          1892- وحديثَ ابنِ عمَرَ: (صَامَ النَّبِيُّ _صلعم_ عَاشُوْرَاءَ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تُرِكَ، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ لَا يَصُومُهُ إِلَّا أَنْ يُوَافِقَ صَوْمَهُ).
          1893- وحديثَ عائِشَةَ (أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَصُوْمُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_ بِصِيَامِهِ حتَّى فُرِضَ رَمَضَانُ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_: مَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ) واختلَفَ / العلماءُ هلْ كَانَ واجبًا قبلَ فَرْضِ رمضانَ أمْ لا؟ والأشبَهُ أنَّه لمْ يجِبْ قطُّ، وَقَالَ أصحابُ أَبي حَنِيْفَةَ بالأوَّلِ.
          وعبَّر الطَّبريُّ عنْه، فقالَ عنْ قومٍ: إنَّه كَانَ يصومُه، فَلَمَّا فُرِضَ رمضانُ لمْ يأمرْ بصومِه ولمْ ينهَ عنْه، فمَنْ شاءَ صامَه ومَنْ شاءَ ترَكَه، وعن قومٍ أنَّه لم يَزَلْ يصومُه ويحثُّ أمَّتَه عليه حتَّى مضى لسبيله، رُوي هذا عَنِ ابْنِ عبَّاس قالَ: ((مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ يَصُومُ يَوْمًا يَتَحَرَّى فَضْلَهُ إِلَّا يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَشَهْرَ رَمَضَانَ)).
          ووَجهُ كراهيةِ ابنِ عُمَرَ صومَه، هو نظيرُ كراهيةِ مَنْ كَرِهَ صومَ رجبٍ إذْ كَانَ شهرًا تعظِّمُه الجاهليَّةُ، فكرِهَ أنْ يُعظَّمَ في الإسلامِ مَا كَانَ يُعظَّمُ في الجاهليَّةِ، مِنْ غيرِ تحريمِ صومِه على مَنْ صامَه، ولا مُؤيسَه مِنَ الثَّوابِ الَّذِي وعدَ اللهُ صائمَه على لسانِ رسولِه إذا صامَه مبتغيًا بصومِه ثوابَ الله ولا يريدُ به إحياءَ سنَّةِ أهلِ الشِّركِ، وكذلك صومُ رجبٍ، وسيأتي إيضاحُ ذلك في بابِه إنْ شاءَ اللهُ [خ¦2000].
          وهذا أَولى مِنْ دَعوى نَسخِه بفرْضِ رمضانَ كما مشى عليه ابنُ التِّيْنِ، وليس في الأمر بصومه مَا يدلُّ على مَنعِ صومِه إلَّا أنَّه اقتَرن به مَا يدلُّ على أنَّ جميعَ الفرْضِ مِنَ الصِّيام، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: فيه دليلٌ على أنَّ مَعنى الآيةِ: كُتِبَ عليكم رمضانُ كما كُتِبَ على الَّذِين مِنْ قَبْلِكم صيامٌ، وفيه ردٌّ على عَطاءٍ وقَتَادَةَ فِي قولهما: كُتِبَ على أوائلِ أمَّةِ محمَّدٍ ثلاثةُ أيَّامٍ مِنْ كلِّ شَهرٍ، وقيلَ: إنَّ في يومِ عاشُوراءَ ستَّ عشْرةَ فضيلةً.
          واخْتُلِفَ في السَّببِ الموجِبِ لصيامِ رسولِ اللهِ _صلعم_ عاشوراءَ، فرُوِيَ أنَّهُ كَانَ يصومُه في الجاهليَّةِ، وفي البخاريِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ((قَدِمَ النَّبِيُّ _صلعم_ المدينة فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُه، قَالُوا: يَوْمٌ صَالِحٌ نَجَّى اللهُ فيه بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ موسى. فَقَال: نَحْنُ أَحَقُّ بِموسى مِنْكُمْ)) ويحتمل أنْ تكونَ قريشٌ كانت تصومُه كما في حديثِ عائشةَ، وكان _◙_ يصومُه معهم قبْلَ أنْ يُبعثَ، فَلَمَّا بُعثَ ترَكَه، فَلَمَّا هاجرَ أُعلِمَ أنَّه مِنْ شريعةِ موسى فصامَه وأَمرَ به فَلَمَّا فُرضَ رمضانُ، فيجمَعُ بينَ الحديثين بهذا.