التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب حق الجسم في الصوم

          ░55▒ بَابُ حَقِّ الجِسْمِ فِي الصَّوْمِ
          1975- ذَكَرَ فِيْهِ حَدِيْثَ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرو: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلعم: (يَا عَبْدَ اللهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُوْلَ اللهِ قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا...) الحديثَ بطولِه.
          وحَقُّ الجسمِ أنْ يَتْرُكَ فِيْهِ مِنَ القُوَّةِ مَا يَسْتَديمُ بِهِ العَمَلَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَجْهَدَ نَفْسَهُ قَطَعَهَا عَنِ العبادةِ وفَتَرَتْ، كَمَا قَالَ فِي الحَدِيثِ المَروِيِّ عندَ أَبِي دَاوُدَ: ((إِنَّ المُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى)).
          قَالَ المُبَرِّدُ: ((المُنْبَتَّ)): المُسْرِعُ فِي السَّيْرِ، فكأنَّه وَقَفَتْ دَابَّتُهُ ولَمْ يَبْلُغْ مَنْزِلَهُ، وقَالَ صلعم: ((أَحَبُّ العَمَلِ إِلَى اللهِ تَعَالَى مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَإِنْ قَلَّ))، وقَالَ: ((اكْلَفُوا مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ))، فنَهَى عَنِ التَّعَمُّقِ فِي العبادةِ وإجهادِ النَّفْسِ فِي العَمَلِ؛ خشيةَ الانقطاعِ، ومَتَى دَخَلَ أحدٌ فِي شيءٍ مِنَ العبادةِ لم يَصْلُحْ لَهُ الانصرافُ عنها، وقَدْ ذَمَّ اللهُ تَعَالَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} الآية [الحديد:27]، فوَبَّخَهُمْ عَلَى تَركِ التَّمَادِي فِيْمَا دَخَلُوا فِيْهِ، ولِهَذَا قَالَ ابنُ عَمْرٍو حينَ ضَعُفَ عَنِ القِيَامِ بِمَا كَانَ التَزَمَهُ: يا لَيتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللهِ صلعم. وقَدْ جَاءَ فِي روايةٍ أُخْرَى _تأتي فِي بابِ: صَوْمِ دَاوُدَ_: ((إِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ لَهُ العَيْنُ)) أي غَارَتَا ودَخَلَتَا [خ¦1979]، و((هَجَمَتْ)) عَلَى الضَّرَرِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، والهَجْمُ: أَخْذُ الشَّيْءِ بسرعةٍ، وهَجَمْتُ عَلَى القومِ: دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ، ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكُوْنَ ((هَجَمَتْ)) بِغَلَبَةِ النَّوْمِ وكثرةِ السَّهْرِ.
          وقولُه: (بِحَسْبِكَ) أي: يكفيكَ أنْ تَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وفي روايةٍ: ((صُمْ مِنْ كُلِّ عَشْرَةٍ يَوْمًا))، وقَدْ عَلَّلَ صِيَامَها بأنَّه يَعْدِلُ صِيَامَ الدَّهْرِ كلِّه، وسَيَأْتِي الكلامُ عَلَى ذَلِكَ، والسِّينُ ساكنةٌ، أي: يكفيكَ، كَمَا ذكرتُه، ونَقَلَ ابنُ التِّيْنِ عَنْ بعضِ العلماءِ أنَّ صِيَامَها حَسَنٌ مَا لم يُعَيِّنْهَا، وليسَ فِيْهَا تَشَبُّهٌ بالفَرْضِ إِذَا لم يُعَيِّنْ أَيَّامًا مِنَ الشَّهْرِ، مثلَ قَصْدِ أيَّامِ البِيْضِ فَقَدْ كَرِهَهُ مَالِكٌ، وقَالَ: مَا هَذَا ببلدِنا، وقَالَ: الأَيَّامُ كلُّها للهِ، وكَرِهَ أن يَجْعَلَ عَلَى نفسِه صَومَ يومٍ يُوْفِيْهِ أو شَهْرٍ، قَالَ عَنْهُ ابنُ وَهْبٍ: فإنَّه لعظيمٌ أنْ يجعلَ عَلَى نفسِه صَومَ يومٍ يُوْفِيْهِ أو شهرٍ كالفَرْضِ، ولكنْ يَصُومُ إِذَا شَاءَ ويُفْطِرُ إِذَا شَاءَ، وذَكَرَ عليُّ بنُ المُفَضَّلِ المَقْدِسِيُّ فِي رسالةِ مَالِكٍ إِلَى هَارُونَ أنَّه أَمَرَهُ بصِيَامِهَا، وقَالَ: بَلَغَنِي عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صلعم أنَّه قَالَ: ((ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ))، إلَّا أنَّه تَكَلَّمَ فِي إسنادِها _أعني الرِّسَالَةَ_ وهِيَ مذكورةٌ فِي «سُنَنِ الكَجِّيِّ» وهُوَ ثِقَةٌ إمامٌ.
          وادَّعَى البَاجِيُّ أنَّه رَوَى فِي إباحَةِ تَعَمُّدِهَا أحاديثَ لَا تَثْبُتُ، وفي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» / عَنْ مُعَاذَةَ، قُلْتُ لِعَائِشَةَ: ((أَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَمِنْ أَيِّ الشَّهْرٍ كَانَ يَصُومُ؟ قَالَتْ: مَا كَانَ يُبَالِي مِنْ أَيِّ الشَّهْرِ كَانَ يَصُومُ)). قَالَ: واختَلَفَ القائلونَ بإباحةِ تَعَمُّدِ صَومِهَا عَلَى أربعةِ أقوالٍ فِي تعيينِها: فَقَالَ ابنُ حَبِيْبٍ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَصُومُ أوَّلَ يومٍ واليومَ العاشرَ والعِشْرِيْنَ، قَالَ: وبَلَغَنِي أنَّ هَذَا كَانَ صَومَ مالكٍ، رَوَاهَا ابنُ حَبِيبٍ عَنْهُ. قَالَ البَاجِيُّ: فِيْهِ نظرٌ لأنَّ روايةَ ابنِ حَبِيْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِيْهَا ضَعْفٌ ولو صَحَّتْ لَكَانَ المَعنَى أنَّ هَذَا مِقدَارُ صَومِ مالكٍ، فَأَمَّا أنْ يَتَحَرَّى صِيَامَهَا، فإنَّ المشهورَ عَنْ مَالِكٍ مَنعُه، وقَالَ سُحْنُونُ: يَصُومُ أَوَّلَه، واختَارَه الشَّيخَانِ أَبَوَا الحَسَنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدرِي مَا يَمنَعُه مِنْ فعلِ ذَلِكَ مِنْ مرضٍ أو موتٍ أو غيرِ ذَلِكَ.
          وفي «التِّرْمِذِيِّ» قَالَ أَبُو ذرٍّ: قَالَ لي رَسُولُ اللهِ صلعم: ((إِذَا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصُمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ)) ثُمَّ حَسَّنَهُ. وقَالَ الشَّيخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي «زاهيهِ»: أَفضلُ صِيَامِ التَّطَوُّعِ أَوَّلُ يومٍ مِنَ الشَّهرِ مِنَ العَشْرِ الأَوَّلِ وحَادِي عَشَرَهُ وحَادِي عِشْرَيْهِ.
          وقولُه: (فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللهِ دَاوُدَ وَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ) وقَالَ فِي البابِ بعدَه: ((لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ))، وقَالَ: (صُمْ وَأَفْطِرْ)، وقَالَ: ((لَا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ)) مَرَّتَيْنِ، وقَالَ فِيْمَنْ صَامَ الأَبَدَ: ((لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ)) أخرجاهُ.
          استَدَلَّ بِهَذَا مَنْ مَنَعَ صَومَ الدَّهرِ مِنْ خمسةِ أَوْجُهٍ:
          قولُه: (وَلَا تَزِدْ) (صُمْ وَأَفْطِرْ) (لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ) دُعَاؤُه عَلَى مَنْ صَامَه، أنَّه فِي مَعنَى مَنْ لم يُؤْجَرْ لِقَوْلِهِ: ((لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ)) لِأَنَّهُ أَمسَكَ ولَا أَجْرَ لَهُ، ومَعنَى: ((لَا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ)) أنَّه لم يَصُمْ يَوْمًا يَنْتَفِعُ بِهِ، وتَكُونُ ((لَا)) بمَعنَى لم كَقَوْلِهِ: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} [القيامة:31]. وقولِه:
وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا
          ويُحْتَمَلُ أنَّه دَعَا لِيَرْجِعَ عَنْ ذلكَ، وأَجَازَ مَالِكٌ وابنُ القَاسِمِ وأَشْهَبُ فِي «المجموعةِ» صِيَامَه، قَالَ ابنُ حَبِيْبٍ: إنَّمَا النَّهْيُ إِذَا صَامَ فِيْهِ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وهُوَ مذهبُ سائرِ الفُقَهَاءِ إلَّا الظَّاهِرِيَّةَ، فإنَّهم أثَّموا فاعلَه جِدًّا بظَاهِرِ أحاديثِ النَّهْيِ عَنْهُ، وقَدْ صَحَّ أنَّه قَالَ: ((إِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي))، وعندَنا أنَّ صَومَه غيرَ العيدِ والتَّشرِيقِ مكروهٌ لِمَنْ خَافَ ضَرَرًا أو فَوْتَ حَقٍّ، ومُستَحَبٌّ لغيرِه.
          واحتَجَّ مَنْ لم يَكْرَهْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة:184] وبِقَوْلِهِ ◙ حكايةً عَنِ اللهِ تَعَالَى: ((إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي))، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: وإِنَّمَا صَارَ صِيَامُ يومٍ ويومٍ أفضلَ، لِأَنَّهُ أَبقَى لقُوَّةِ الجسمِ، وإِذَا استَمَرَّ صَارَ عَادَةً.