عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول النبي: إنما الكرم قلب المؤمن
  
              

          ░102▒ (ص) باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم : «إِنَّما الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ».
          (ش) أي: هذا بابٌ في ذكرِ قولِ النَّبِيِّ صلعم / : «إِنَّما الكرمُ قلبُ المؤمن» هذا قطعة مِن آخر حديثٍ رواه أبو هُرَيْرَة، ويأتي الآن في هذا الباب مِن رواية سعيد بن المُسَيَِّبِ عن أبي هُرَيْرَة، ورواه مسلمٍ مِن رواية الأعرج عنه قال: قال رسول الله صلعم : «لا يقولنَّ أحدكم: الكرمَ، فإنَّما الكرمُ قلب المؤمن»، وله مِن رواية ابن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِيِّ صلعم قال: «لا تُسَمُّوا العنب الكرم، فإنَّ الكَرْم الرجل المسلم»، وفي رواية له مِن حديث عَلْقَمَة بن وائل عَن أبيه: أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: «لا تقولوا: الكرم، ولكن قولوا: العنب والحَبَلة».
          قوله: (إِنَّما الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ) أي: لِمَا فيه مِن نور الإيمان والتقوى، قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات:13] وقال في الباب الذي قبله: «لا تُسمُّوا العنب الكرم»، وقال هنا: إِنَّما الكرم قلب المؤمن.
          قالت العلماء: سبب كراهة ذلك أنَّ لفظ (الكرم) كانت العرب تطلقها على شجر العنب، وعلى العنب، وعلى الخمر المتَّخذة مِنَ العنب سمُّوها كرمًا؛ لكونها متَّخذة منها، ولأنَّها تحمل على الكرم والسخاء، فكره الشارع إطلاق هذه اللفظة على العنب وشجره؛ لأنَّهم إذا سمعوا اللفظ فربَّما تذكُّروا بها الخمر وهيَّجت نفوسهم إليها فوقعوا فيها، أو قاربوا، وقال: إِنَّما يستحقُّ هذا الاسم قلبُ المؤمن؛ لأنَّه منبع الكرم والتقوى والنور والهدى، والمشهور في اللغة أنَّ (الكَرْم) بسكون الراء: العنب، قال الأزهريُّ: سُمِّيَ العنبُ كَرْمًا لكَرَمه، وذلك لأنَّه ذُلِّلَ لقاطعه، ويَحمِل الأصلُ منه مثل ما تحمل النخلة وأكثر، وكلُّ شيءٍ كَثُرَ فقد كَرُم، وقال ابن الأَنْبَارِيِّ: سُمِّيَ كرمًا لأنَّ الخمر منه، وهي تَحثُّ على السَّخاء، وتأمر بمكارم الأخلاق، كما سمَّوها راحًا؛ ولذلك قال: «لا تسمُّوا العنب كَرْمًا» كرِهَ أن يُسمَّى أصلُ الخمر باسمٍ مأخوذٍ مِنَ الكَرْم، وجَعَلَ المؤمن الذي يتَّقي شربها ويرى الكَرَمَ في تركها أحقَّ بهذا الاسم الحسَن؛ تأكيدًا لحرمته، وأسقط الخمر عَن هذه الرتبة؛ تحقيرًا لها.
          (ص) وَقَدْ قَالَ: «إِنَّما الْمُفْلِسُ الَّذِي يُفْلِسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» كَقَوْلِهِ: «إِنَّما الصُّرَعَةُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» كَقَوْلِهِ: «لَا مَلِكَ إِلَّا اللهُ»، فَوَصَفَهُ بِانْتِهَاءِ الْمُلْكِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُلُوكَ أَيْضًا فَقَالَ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا}[النمل:34].
          (ش) مقصود البُخَاريِّ مِن ذكرِ هذا الكلام الذي فيه أدوات الحَصر: أنَّ الحصر فيه ادِّعائيٌّ لا حقيقيٌّ، فكذلك الحصر في قوله: «إِنَّما الكرم قلبُ المؤمن»، فكأنَّ الكَرْم الحقيقيَّ هو القلب لا الشجر، على سبيل الادعاء لا على الحقيقة، ألا ترى أنَّهُ يُطلَق على غيره؟
          وقوله: (إِنَّما الْمُفْلِسُ الَّذِي يُفْلِسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ومعنى الحديث كما أخرجه التِّرْمِذيُّ، ولكن ليس فيه أداة الحصر، قال: حَدَّثَنَا قُتيبة: حَدَّثَنَا عبد العزيز بن مُحَمَّدٍ عن العلاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أبيه عَن أبي هُرَيْرَة ☺ أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: «أتدرون مَنِ المفلس؟» قالوا: المفلس فينا يا رسول الله؛ من لا درهم له ولا متاع، قال رسول الله صلعم : «المفلس مِن أمَّتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيُقعدُ فيقتص هذا مِن حسناته وهذا مِن حسناته، فإن فَنِيَت حسناته قبل أن يقتصَّ ما عليه مِنَ الخطايا أُخِذ مِنَ خطاياهم، فطُرِح عليه، ثُمَّ طرح في النار» قال التِّرْمِذيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
          قوله: (كَقَوْلِهِ: إِنَّما الصُّرَعَةُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ) أراد أنَّ قوله: «إِنَّما المفلس» كقوله: «إِنَّما الصُّرعة...» وهذا حديثٌ رواه أبو هُرَيْرَة، وقد مضى قبل هذا الباب بخمسة وعشرين بابًا.
          قوله: (كَقَوْلِهِ: لَا مَلِكَ إِلَّا اللهُ) أراد أنَّ فيه الحصر كما فيما قبله؛ لأنَّ كلمة (لا) وكلمة (إلَّا) صريحٌ في النفي والإثبات، فمقتضاه حصرُ لفظ (المَلِك) _بفتح الميم وكسر اللام_ على الله، لكن قد أُطلِقَ على غيره، وفي نفس الأمر المَلِكُ حقيقةً هو الله تعالى، والباقي بالتجوُّز، ورُوِي: <لا مُلكَ إلَّا لله> بِضَمِّ الميم وسكون اللام.
          قوله: (فَوَصَفَهُ بِانْتِهَاءِ الْمُلْكِ) وهو عبارة عَنِ انقطاع الملك عنده؛ أي: لا ملك بعده.
          قوله: (فَقَالَ: {إِنَّ / الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا}[النمل:34]) ذكر هذا لبيانِ الملك يُطلق على غير الله تعالى بدليلِ قوله تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} وهو جمع (مَلِكٍ) وفي القرآن شيءٌ كثيرٌ مِن هذا القبيل كقوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ}[يوسف 50] في صاحب يوسف وغيره، ولكن كما ذكرنا كلُّ ذلك بطريق التجوُّز لا بطريق الحقيقة.