عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الانبساط إلى الناس
  
              

          ░81▒ (ص) بابُ الاِنْبِسَاطِ إِلَى النَّاسِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في جوازِ الانبساط إلى الناس، وفي رواية الكُشْميهَنيِّ: <مع الناس> والمراد به: أن يتلقَّى الناسَ بوجهٍ بشوشٍ وينبسط معهم بما ليس فيه ما يُنكره الشرع، وما يُرتَكب فيه الإثم، وكان النَّبِيُّ صلعم أحسَنَ الأمَّة أخلاقًا، وأبسَطَهم وجهًا، وقد وصفه الله ╡ بذلك بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4] فكان ينبسط إلى النساء والصبيان ويداعبهم ويمازحهم، وقد قال صلعم : «إنِّي لأمزح ولا أقول إلَّا حقًّا»، فينبغي للمؤمن الاقتداء بحسن أخلاقه وطلاقة وجهه.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ☺ : خَالِطِ النَّاسَ وَدِينَكَ لَا تَكْلِمَنَّهُ.
          (ش) ذكر هذا التعليق عَن عبد الله بن مسعودٍ إشارةً إلى أنَّ الانبساط مع الناس والمخالطة بهم مشروعٌ، ولكن بشرط ألَّا يحصل في دينه خللٌ، ويبقى صحيحًا، وهو معنى قوله: (وَدِينَكَ لَا تَكْلِمَنَّهُ) مِنَ الكَلْمِ؛ بفتح الكاف وسكون اللام، وهو الجرح، ويجوز فِي (دِينكَ) الرفع والنصب؛ أَمَّا الرفع فعلى أنَّهُ مبتدأ، و(لَا تَكْلِمَنَّهُ) خبره، وأَمَّا النصب فعلى شريطة التفسير، والتقدير: لا تَكْلِمَنَّ دينك، وفَسَّر المذكور المقدَّر، فافهم.
          وقد وصل التعليق المذكور الطبرانيُّ في «الكبير» مِن طريق عبد الله بن بَابا _بباءين موحدتين_ عن ابنِ مسعودٍ: خالطوا الناس وصافوهم بما يشتهون ودينكم فلا تَكْلِمُنَّه.
          (ص) والدُّعَابَةِ مَعَ الأهْلِ.
          (ش) (وَالدُّعَابَةِ) بالجرِّ عطفًا على قوله: (الانبساطِ) وهو مِن بقيَّة الترجمة، وهو بِضَمِّ الدال وتخفيف العين المُهْمَلة وبعد الألف باء مُوَحَّدة، وهي الملاطفة في القول بالمُزاح، مِن دَعب يَدْعَب فهو دَعَّاب، قال الجَوْهَريُّ: أي: لَعَّاب، والمداعبة الممازحة، وأَمَّا (المُزَاح) فهو بِضَمِّ الميم، وقد مَزَح يَمزَح، والاسم المُزاح _بالضَّمِّ_ والمُزاحة أيضًا، وأَمَّا المِزح؛ بكسر الميم فهو مصدرٌ، وروى التِّرْمِذيُّ مِن حديث أبي هُرَيْرَة قال: قالوا: يا رسول الله؛ إنَّك تلاعبنا؟ قال: «إنِّي لا أقول إلَّا حقًّا»، وحَسَّنه التِّرْمِذيُّ.
          فَإِنْ قُلْتَ: قد أخرج مِن حديث ابن عَبَّاسٍ رفعه: «لا تمارِ أخاك ولا تمازحه...» الحديث.
          قُلْت: يُجمَع بينهما بأنَّ المنهيَّ عنه ما فيه إفراطٌ أو مداومة عليه؛ لأنَّها تؤول إلى الإيذاء والمخاصمة وسقوط المَهابة والوَقار، والذي يَسْلَم مِن ذلك هو المُباح، فافهم.