عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن}
  
              

          ░58▒ (ص) بابٌ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا}[الحجرات:12].
          (ش) أي: هذا بابٌ في قوله ╡ : ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}...) إلى آخره، هكذا وقع في رواية الأكثرين إلَّا أنَّ لفظ (باب) لم يقع في رواية أبي ذرٍّ، وقال المفسِّرون: نزلت هذه الآية في رجلين مِنَ الصَّحابة اغتابا سلمانَ ☺ .
          قوله: ({اجْتَنِبُوا}) أي: امتنِعوا واحترِزوا ({كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ})، وقال سعيد بن جُبَير: هو الرَّجل يسمع مِن أخيه كلامًا لا يريد به سُوءًا، فيراه أخوه المسلم، فيظنُّ به سوءًا، وقال الزَّجَّاج: هو أن يظنَّ بأهل الخير سوءًا.
          وقوله: ({كَثِيرًا مِنَ الظَّنِ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}) يدلُّ على أنَّهُ لم ينه عَن جميع الظنِّ، والظَّنُّ على أربعة أوجه: محظور، ومأمور به، ومباحٌ، ومندوب إليه؛ فالمحظور: هو سوء الظنِّ بالله تعالى، وكذلك الظنُّ بالمسلمين الذين ظاهرُهم عدالةٌ محظورٌ، والمأمور به: هو ما لم يُنصَب عليه دليلٌ يوصل إلى العلم به، وقد تُعُبِّدنا بتنفيذ الحكم فيه، والاقتصار على غالب الظنِّ، وإجراء الحكم واجبٌ، وذلك نحو ما تُعُبِّدنا به مِن قَبول شهادة العدول، وتحرِّي القِبلة، وتقويم المستَهلَكات وأُروش الجنايات الَّتي لم يَردْ مقاديرُها بتوقيفٍ مِن قِبَلِ الشرع، فهذا ونظائرُه قد تُعُبِّدنا فيه بغالب الظَّنِّ، [والظُّنُّ المباح: كالشَّكِّ في الصَّلاة إذا كان إمامًا، أَمَره النَّبِيُّ صلعم بالتَّحرِّي والعمل بغالب الظنِّ]، فَإِن فعله كان مباحًا، وإن عَدَل عنه إلى غيره مِن البناء على اليقين كان جائزًا، والظنُّ المندوب إليه كإحسان الظنِّ بالأخ المسلم، يُندب إليه ويُثاب عليه.
          وتفسير ({وَلَا تَجَسَّسُوا}) قد مضى.