عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه
  
              

          ░85▒ (ص) بابُ إِكْرَامِ الضَّيْفِ وَخِدْمَتِهِ إِيَّاهُ بِنَفْسِهِ، وَقَوْلِهِ: {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}[الذاريات:24].
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان مندوبيَّة إكرام الضيف، والإكرامُ مصدرٌ مضافٌ إلى مفعوله، وطُوِيَ ذِكرُ الفاعل؛ تقديره: إكرام الرجلِ ضيفَه، وخدمته إيَّاه؛ أي: الضيف بنفسه، وهذا تخصيصٌ بعد التعميم؛ لأنَّ إكرام الضيف أعمُّ مِن أن يكون بنفسه أو بأحدٍ مِن خَدَمه، وفيه زيادةُ تأكيدٍ لا تخفى.
          قوله: ({ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}) إِنَّما ذكر هذا إشارةً بأنَّ لفظ (الضَّيف) يُطلَق على الواحد والجمع؛ ولهذا وقع {الْمُكْرَمِينَ} صفةً لـ(الضيف) وجمعُ القلَّة منه: (أضيافٌ) وجمع الكثرة: (ضيوفٌ) و(ضِيفان) يقال: ضِفتُ الرجلَ؛ إذا نزلتَ به في ضيافةٍ، وأضفتُه؛ إذا أنزلتَه، وتضيَّفتُه؛ إذا نزلتَ به، وتضيَّفني؛ إذا أنزلني.
          (ص) قَالَ أَبُو عَبْد اللهِ: يُقَالُ: هُوَ زَوْرٌ وَهَؤُلَاءِ زَوْرٌ، وَمَعْنَاهُ: أَضْيَافُهُ وَزُوَّارُهُ؛ لأنَّها مَصْدَرٌ؛ مِثْلُ: قَوْمٍ رِضًا وَعَدْلٍ، وَيُقَالُ: مَاءٌ غَوْرٌ، وَبِئْرٌ غَوْرٌ، وَمَاءَانِ غَوْرٌ، وَمِيَاهٌ غَوْرٌ، وَيُقَالُ: الْغَوْرُ: الْغَابرُ لَا يَنَالُهُ الدِّلَاءُ، كُلُّ شَيْءٍ غِرْتَ فِيهِ فَهِيَ مَغَارَةٌ، {تَزَّاوَرُ} تَمِيلُ؛ مِنَ الزَّوَرِ، وَالْأَزْوَرُ: الْأَمْيَلُ.
          (ش) (أَبُو عَبْدِ اللهِ) هو البُخَاريُّ نفسُه.
          وقوله: (هَذَا) إلى قوله: (وَمِيَاهٌ غَوْرٌ) إِنَّما ثبت في رواية أبي ذرٍّ عن المُسْتَمْلِي والكُشْميهَنيِّ فقط.
          قوله: (يُقَالُ: هُوَ زَوْرٌ) أراد به أنَّ لفظ (زَوْر) يُطلَق على الواحد والجمع، يقال: هو زَورٌ؛ للواحد، وهؤلاء القومُ زَورٌ؛ للجمع، والحاصل: أنَّ لفظ (زَوْر) مصدرٌ وُضِعَ موضعَ الاسم؛ كـ(صَوم) بمعنى صائم، و(نَوم) معنى نائم، وقد يكون جمعَ (زائر) كـ(رَكْبٍ) جمع (راكبٍ).
          قوله: (وَمَعْنَاهُ) أي: معنى (هَؤُلَاءِ زَوْرٌ) هؤلاء أضيافُه، و(زُوَّارُهُ) بِضَمِّ الزاي وتشديد الواو، وهو جمع (زائرٍ).
          قوله: (لِأنَّها مَصْدَرٌ؛ مِثْلُ: قَوْمٍ...) المثليَّة بينهما في إطلاق (زَور) على (زُوَّار) كإطلاق لفظ (قوم) على جماعة، وليست المِثْليَّة في المصدريَّة؛ لأنَّ لفظ (قوم) اسمٌ، وليس بمصدر، بخلاف لفظ (زور) فَإِنَّهُ في الأصل مصدر.
          قوله: (رِضًا وَعَدْلٍ) يعني: يقال: قومٌ رضًا؛ بمعنى مَرضيُّون، وقومٌ عدلٌ؛ بمعنى عُدول، وتوصيفُه بالمفرد باعتبار اللَّفظ؛ لأنَّه مفرد وفي المعنى جمع.
          قوله: (وَيُقَالُ: مَاءٌ غَوْرٌ) بفتح الغين المُعْجَمة وسكون الواو وبالراء، ومعناه: غائر؛ أي: ذاهبُ الماء إلى أسفل أرضِه، يقال: غار الماءُ يغور غُؤورًا وغَورًا، و(الغَورُ) في الأصل مصدرٌ؛ فلذلك يقال: ماء غَورٌ، (وَمَاءَانِ غَوْرٌ، وَمِيَاهٌ غَوْرٌ).
          قوله: (وَيُقَالُ: الْغَوْرُ الْغَابِرُ) أي: الذَّاهب بحيث (لَا يَنَالُهُ الدِّلَاءُ) هكذا فسَّره أبو عُبَيدة.
          قوله: (كُلُّ شَيْءٍ غِرْتَ فِيهِ) أي: ذهبتَ فيه يسمَّى (مَغَارَة) ويُسمَّى غارًا وكهفًا، وإِنَّما قال: (فَهِيَ) بالتأنيث؛ نَظَرًا للمغارة.
          قوله: ({تَزَّاوَرُ}) أشار به إلى قوله تعالى في قصَّة أصحاب الكهف: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَّاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ}[الكهف:17] أي: تميل، وهو مِن (الزَّوَر) بفتح الواو؛ بمعنى الميل، و(الأَزْوَرُ) هو (أفعَل) أُخِذ منه بمعنى (الأَمْيَل) و{تزَّاوَرُ} أصله: تَتَزاوَر، فأُدغِمَت إحدى التاءينِ في الزاي.