عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب البر والصلة
  
              

          ░1▒ (ص) بَابُ البِرِّ والصِّلَة، وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}[العنكبوت:8].
          (ش) أي: هذا بابٌ في ذِكرِ البرِّ والصلة.
          (البرُّ) الإحسان، ومنه: البرُّ في حقِّ الوالدين، وهو في حقِّهما وحقِّ الأقربين مِنَ الأهل، ضدُّ العقوق؛ وهو الإساءة إليهم والتضييع لحقِّهم، يقال: برَّ يبرُّ فهو بارٌّ، وجمعه (بررة)، وجمع (البرِّ) (أبرار)، و(الصِّلَة) هي صِلة الأرحام، وهو كناية عَن الإحسان إلى الأقربين مِن ذوي النسب والأصهار، والتعطُّف عليهم، والرفق بهم، والرعاية لأحوالهم، وكذلك إن بعُدوا وأساؤوا، و(قطع الرحم) قطع ذلك كلِّه، يقال: وصل رحمه يصِلها وصلًا وصِلةً، وأصل (الصِّلة) (وصْلة) فحُذِفت الواو تبعًا لفعله، وعُوِّضت عنها الهاء؛ فكأنَّه بالإحسان إليهم قد وصل ما بينه وبينهم مِن علاقة القرابة والصهر.
          وقوله: (بَابُ البِرِّ...) إلى آخره، هكذا وقع لأكثر الرواة، وحذف بعضهم لفظ: (البرِّ والصلة) واقتصر النَّسَفِيُّ على قوله: <كتاب البرِّ والصلة...> إلى آخره.
          قوله: (وَقَوْلِ اللهِ) بالجرِّ عطفًا على ما قبله مِن المجرور بالإضافة، هذه الآية وقعت بهذا اللفظ في (العنكبوت) وفي (الأحقاف) أَمَّا التي في (العنكبوت) فهو قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الآية[العنكبوت:8]، وأَمَّا التي في (الأحقاف) فهو قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} الآية[الأحقاف:15] وفي (لقمان) أيضًا: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} الآية[لقمان:14]، والمراد هنا الآية التي في (العنكبوت).
          وسبب نزول هذه الآية ما رُوِيَ عَن سعد بن أبي وَقَّاص ☺ أنَّهُ قال: نزلت _يعني: الآية المذكورة_ فيَّ خاصَّةً، كنت رجلًا بَرًّا بأمِّي، فلمَّا أسلمتُ قالت: يا سعد؛ ما هذا الذي أحدثتَ؟ لَتَدَعَنَّ دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب، ولا تُعلُّنِي سقف حَتَّى أموت، فتُعَيَّر فيَّ فيقال: يا قاتل أمِّه، فقُلْت: لا تفعلي يا أمَّه، فإنِّي لا أترك ديني هذا، فمكثتْ يومًا وليلة لا تأكل، فلمَّا أصبحت جَهَدَت، ومكثت يومًا آخر وليلةً كذلك، فلمَّا رأيتُ ذلك منها قُلْتُ: تعلمين والله يا أمَّه؛ لو كانت لك مئة نفسٍ فخرجت نفسًا نفسًا ما تركتُ دِيني هذا، فكُلي إن شئتِ أو لا تأكلي، فلمَّا رأت ذلك أكلت، فنزلت هذه الآية، والتي في (لقمان) و(الأحقاف)، وأمره صلعم أن يُرضيَها ويحسن إليها، ولا يطيعها في الشرك.
          قُلْت: اسم أمِّ سعد بن أبي وقَّاص المذكورة حَمْنة _بفتح الحاء المُهْمَلة وسكون الميم بعدها نون_ بنت سفيان بن أميَّة، وهي ابنة عمِّ أبي سفيان بن حَرْب بن أميَّة، ولم يُعلم إسلامُها.
          واقتضت الآية الكريمة الوصيَّة بالوالدين والأمر بطاعتهما ولو كانا كافرين إلَّا إذا أَمَرا بالشرك فتجب معصيتهما في ذلك.
          قوله: ({حُسْنًا}) نُصب بنزع الخافض؛ أي: بِحُسنٍ، وقرئ: {إِحْسَانًا} على تقدير: أن تحسن إحسانًا، و{حُسْنًا} أعمُّ في البرِّ.