عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}
  
              

          ░56▒ (ص) بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ}[النحل:90] وَقَوْلِهِ: {إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}[يونس:23] {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ}[الحج:60].
          (ش) أشار البُخَاريُّ بإيراد هذه الآيات إلى وجوبِ ترك إثارة الشرِّ على مسلمٍ أو كافر، يدلُّ عليه قوله: ({وَالْإِحْسَانِ}) أي: إلى المسيءِ وترك معاقبته على إساءته، وفي رواية أبي ذرٍّ والنَّسَفِيِّ: <{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} الآية> وفي رواية الباقين سيقت إلى: {تَذَكَّرُونَ}.
          ثُمَّ في تفسير هذه الآية أقوالٌ:
          الأَوَّل: أنَّ المراد بالعدل: شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان: أداء الفرائض، قاله ابن عَبَّاس، الثاني: العدل: الفرائض، والإحسان: النَّافلة، الثالث: العدل: استواء السَّريرة والعلانية، والإحسان: أن تكون السريرة أفضل مِنَ العلانية، قاله ابن عُيَيْنَة، الرَّابع: العدل: خلع الأنداد، والإحسان: أن تعبد الله كأنَّك تراه، الخامس: العدل: العبادة، والإحسان: الخشوع فيها، السَّادس: العدل: الإنصاف، والإحسان: التفضُّل، السَّابع: العدل: امتثال المأمورات، والإحسان: الاجتناب عَنِ المنهيَّات، الثَّامن: العدل: في الأفعال، والإحسان: في الأقوال، التَّاسع: العدل: بذل الحقِّ، والإحسان: ترك الظُّلم، العاشر: العدل: البذل، والإحسان: العفو.
          قوله: ({وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}) أي: صلة الرَّحم.
          قوله: ({وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}) يعني: عَن كلِّ فعلٍ وقولٍ قبيح، وقال ابن عَبَّاس: هو الزِّنى والبغي، قيل: هو الكبر والظلم، وقيل: التَّعدِّي ومجاوزة الحدِّ.
          قوله: ({تَذَكَّرُونَ}) أصله: تَتَذكَّرون، فَحُذِفَت إحدى التَّاءين.
          قوله: ({إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}) قال ابن عُيَينة: المراد بها أنَّ البغيَ تُعجَّل عقوبته في الدُّنيا لصاحبه، يقال: للبغي مَصرَعةٌ.
          قوله: ({ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ}) كذا في رواية كريمة والأصيليِّ على وفق التِّلاوة، وكذا في رواية أبي ذرٍّ والنَّسَفِيِّ، ووقع للباقين: <وَمَن بُغِيَ عليه> وهو خلاف ما وقع عليه القرآن، وقال بعضهم: وهو سبق قلم؛ إمَّا مِن المصنِّف وإمَّا ممَّن بعده.
          قُلْت: الظَّاهر أنَّهُ مِنَ النَّاسخ، واستُمِرَّ عليه في رواية غير هؤلاء المذكورين.
          ثُمَّ إنَّ الله ╡ ضمِنَ نصرة مَن بُغِيَ عليه، [والأَولى لِمَن بُغِيَ عليه أن يشكر الله على ما ضمِنَ مِن نصره، ويقابل ذلك بالعفوِ عمَّن بغى عليه]، وقد كان له الانتقام فيه؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}[النحل:126] لكنَّ الصَّفح عنه أَوْلَى؛ عملًا بقوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[الشورى:43] وقد أخبرت عائشة ♦ أنَّهُ صلعم كان لا ينتقمُ لنفسه، ويعفو عمَّن ظلمه.
          (ص) وَتَرْكِ إثارَةِ الشَّرِّ عَلَى مُسْلِمٍ أوْ كافِرٍ.
          (ش) (وَتَرْكِ) مجرور عطفًا على قوله: (قَوْلِ اللهِ تَعَالَى) أي: وفي بيانِ وجوبِ / تركِ إثارة الشَّرِّ؛ أي: تهيِيجه على مسلمٍ أو كافر، وحال المسلم يقتضي إطفاء الشرِّ عَنِ الناس أجمعين.