عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل
  
              

          ░39▒ (ص) باب حُسْنِ الْخُلُقِ وَالسَّخَاءِ، وَمَا يُكْرَهُ مِنَ الْبُخْلِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ حُسْنِ الخلق، وفي بيانِ السخاء، وفي بيانِ ما يُكره مِنَ البخل.
          و(الْخُلُْقُ) بالضمِّ وسكون اللَّام وبضمِّهَا، قال الراغب: الخُلق والخَلق _يعني: بالضمِّ والفتح_ في الأصل بمعنًى واحدٍ؛ كالشُّرب والشَّرب، لكن خُصَّ الخَلْق الذي بالفتح بالهَيْئَات / والصور المُدرَكة بالبصر، وخُصَّ الخُلْق الذي بالضمِّ بالقوى والسجايا المُدرَكة بالبصيرة.
          وأَمَّا (السَّخَاءُ) فهو إعطاءُ ما ينبغي لِمَن ينبغي، وبذل ما يُقتَنى بغير عوض، وهو مِن جملة محاسن الأخلاق، بل هو مِن أعظمها.
          وأَمَّا (الْبُخْلُ) فهو ضدُّه، وليس مِن صفات الأنبياء، ولا جلَّة الفضلاء، وقيل: البخل: منع ما يُطلَب مِمَّا يُقتَنى، وشرُّه ما كان طالبه مستحقًّا، ولا سيَّما إذا كان مِن غير مالِ المسؤول.
          فَإِنْ قُلْتَ: ما معنى قوله: (وما يُكْرَهُ مِنَ البُخْلِ) وزاد فيه لفظ: (ما يُكرَه) ؟
          قُلْت: كأنَّه أشار بهذا إلى أنَّ بعض ما يجوز انطلاقُ اسم البخل عليه قد لا يكون مذمومًا.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☺ : كَانَ النَّبِيُّ صلعم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ.
          (ش) هذا تعليقٌ وصله البُخَاريُّ في (كِتَابِ الإيمان).
          قوله: (وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ) يجوز بالرفع والنصب، قاله الكَرْمانيُّ، ولم يبيِّن وجههما.
          قُلْت: أَمَّا الرفع فهو أكثر الروايات، ووجهه أن يكون مبتدأً وخبره محذوفٌ، وكلمة (ما) مصدريَّة؛ نحو قولك: (أخطبُ ما يكون الأميرُ قائمًا) أي: أجودُ أكوان الرسول حاصلٌ أو واقعٌ في رمضان، وأَمَّا النصب فبتقدير لفظ (كان) أي: كان أجودَ الكون في شهر رمضان، وأَمَّا كونُ أكثريَّة جوده في رمضان؛ فلأنَّه شهر عظيم، وفيه الصوم، وفيه ليلة القدر، والصوم أشرف العبادات؛ فلذلك قال: «الصوم لي، وأنا أجزي به» فلا جرَمَ يتضاعف ثواب الصدقة والخير فيه؛ ولهذا قال الزُّهْريُّ: تسبيحةٌ في رمضان خيرٌ مِن سبعين في غيره.
          (ص) وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ ☺ : لَمَّا بَلَغَهُ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صلعم ؛ قَالَ لأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي، فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، فَرَجَعَ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلَاقِ.
          (ش) مطابقته للترجمة تُؤخذ مِن قوله: (بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ) لأنَّ حسن الخلق والسخاء مِن مكارم الأخلاق.
          وهذا التعليق وصله البُخَاريُّ في (قصَّة إسلام أبي ذرٍّ) مطوَّلًا.
          قوله: (إِلَى هَذَا الْوَادِي) أراد به مكَّة.
          قوله: (فَرَجَعَ) فيه حذفٌ؛ تقديره: فأتى النَّبِيَّ صلعم ، وسمعَ منه، ثُمَّ رجع، والفاء فيه فصيحةٌ.
          قوله: (يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ) [أي: الفضائل والمحاسن، لا الرذائل والقبائح، قال صلعم : «بُعِثتُ لأُتمِّم مكارم الأخلاق»].