عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

حديث: اشترى رجل من رجل عقارًا
  
              

          3472- (ص) حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ ابْنُ نَصْرٍ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم : «اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّما اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ، وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَرْضُ: إِنَّما بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ، وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ، قَالَ: أَنْكِحُوا الغُلَامَ الجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ، وَتَصَدَّقَا».
          (ش) مطابقته للترجمة من حيث إنَّ الرجلينِ المذكورينِ فيه مِن بني إسرائيل.
          و(إْسَحَاقُ ابْنُ نَصْرٍ) هو إسحاق بنُ إبراهيم بن نصر، السَّعدِيُّ البُخَاريُّ.
          والحديث أخرجه مسلمٌ في (القضاء) عن مُحَمَّد بن رافع.
          قوله: (عَقَارًا) : (العَقار) أصلُ المال مِنَ الأرض وما يتَّصل بها، وعُقْر الشيء: أصلُه، ومنه: عَُقْر الأرض؛ بفتح العين وضمِّها، وقيل: العَقار: المنزل والضَّيعة، وخصَّه بعضُهم بالنخيل، وقال ابنُ التين: (العَقار: الضِّياع، وعَقار الرجل: ضَيعتُه).
          قوله: (جَرَّةً) وهي مِنَ الفخَّار ما يُصنَع مِنَ المَدَر.
          قوله: (وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ) أي: ولم أشترِ منك الذهب.
          قوله: (فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ) ظاهرُه أنَّهما حكَّما ذلك الرجلَ، ولكنْ في حديث إسحاق بن بِشْرٍ التصريحُ بأنَّه كان حاكمًا منصوبًا للناس.
          قوله: (أَلَكُمَا وَلَدٌ؟) بفتح الواوِ واللام، والمرادُ به جنسُ الولد؛ لأنَّه يستحيلُ أن يكون للرجلين جميعًا وَلَدٌ واحد، أوِ المعنى: أوَلِكُلِّ واحدٍ منكما ولدٌ؟ ويجوز بِضَمِّ الواو وسكون اللام، وهو صيغة جمعٍ، فيكون المعنى: ألكُما أولاد؟ ويجوز كسرُ الواو أيضًا.
          فَإِنْ قُلْتَ: جاء: (أَنْفِقُوا) و(أَنْكِحُوا) بصيغة الجمع، وقوله: (تَصَدَّقا) بصيغة التثنية.
          قُلْت: لأنَّ العقد لا بدَّ فيهما مِن شاهدينِ، فيكونانِ معَ الرجلين أربعةً، وهو جمعٌ، والنفقة قد يُحتاجُ فيها إلى المُعين؛ كالوكيل، فيكون أيضًا جمعًا، وأَمَّا وجهُ التثنية في الصدقة؛ فلأنَّ الزوجينِ مخصوصانِ بذلك.
          وفي الحديث: إشارةٌ إلى جواز التحكيم، وفي هذا الباب خلافٌ؛ فقال أبو حنيفة: إن وافقَ رأيُ المحكَّم رأيَ قاضي البلد؛ نفذ، وإلَّا؛ فلا، وأجاز مالكٌ والشَّافِعِيُّ بشرطِ أن يكون فيه أهليَّة الحُكم، وأن يحكم بينهما بالحقِّ، سواءٌ وافق ذلك رأيَ قاضي البلد أم لا، وقال القرطبيُّ: هذا الرجلُ الذي تحاكما إليه لم يصدُر منه حكمٌ على أحدٍ منهما، وإِنَّما أصلح بينهما؛ لِما ظهر له مِن وَرَعِهما وحُسنِ حالِهما، ولِما ارتجى مِن طيب نَسْلِهما وصلاحِ ذُرِّيَّتِهما.
          وحكى المازريُّ خلافًا عندهم فيما إذا ابتاع أرضًا، فوجد فيها شيئًا مدفونًا؛ هل يكون ذلك للبائع أو للمشتري؟ فإن كان مِن أنواع الأرض؛ كالحجارة والعُمُد والرُّخام؛ فهو للمشتري، وإن كان كالذهب والفضَّة؛ فإن كان مِن دَفين الجاهليَّة؛ فهو رِكاز، وإن كان مِن دَفين المسلمين؛ فهو لُقَطة، وإن جُهِلَ ذلك؛ كان مالًا ضائعًا، فإن كان هناك بيتُ مالٍ؛ يُحفَظ فيه، وإلَّا؛ صُرِفَ في الفقراء والمساكين، وفيما يُستعانُ به على أمور الدين، وفيما أمكن مِن مصالح المسلمين، وقال ابن التين: فإن كان مِن دَفين الإسلام؛ فهو لُقَطة، وإن كان مِن دَفين الجاهليَّة؛ فقال مالك: هو للبائع، وخالفه ابنُ القاسم فقال: إنَّ ما في داخلِها بمنزلةِ ما في خارجها، وقولُ مالك أحسنُ؛ لأنَّ مَن ملك أرضًا باختطاطٍ؛ مَلَكَ ما في باطنِها، وليس جهلُه بِهِ حين البيعِ يُسقِطُ مِلكَه فيه.