عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {واذكر في الكتاب موسى}
  
              

          ░21▒ (ص) بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَى إنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا. وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا. وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}[مريم:51-53]
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذكَر فيه موسى وهارونَ، وبيانُ ذلك في قول الله تعالى: ({وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ...}) إلى آخره، وهذا كلُّه مذكورٌ في رواية كريمةَ، وفي رواية أبي ذرٍّ إلى قوله: {نَجِيًّا} فحسب.
          قوله: ({وَاذْكُرْ}) خطابٌ للنبيِّ صلعم .
          قوله: ({فِي الكِتَابِ}) أي: القرآن.
          قوله: ({مُخْلَصًا}) قرأ الكسائيُّ وحمزةُ وحفصٌ عن عاصمٍ بفتح اللام؛ أي: أخلَصَه الله، وجَعَله خالصًا مِنَ الدنَس، مختارًا، وقرأ الباقون بكسر اللام؛ أي: الذي وحَّد الله، وجعل نفسه خالصةً في طاعة الله تعالى غيرَ دنِسَةٍ.
          قوله: ({وَنَادَيْنَاهُ}) أي: دَعَوناه، وكلَّمناه، ليلة الجمعة ({مِنْ جَانِبِ الطُّورِ}) ؛ وهو جبلٌ بين مِصْر ومدْيَن.
          قوله: ({الأَيْمَنِ}) قيل: صفةٌ لـ{الطُّورِ}، وقيل: لـ(الجانب)، وقيل: لـ(موسى)، فَإِنَّهُ جاء النِّداء مِن يمين موسى.
          قوله: ({وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}) مُناجِيًا، قيل: حَتَّى سمِع صريفَ القلم حين كُتِبَ له في الألواح.
          قوله: ({مِنْ رَحْمَتِنَا}) أي: مِن أجل رحمتنا له، أو بعض رحمتنا؛ فعلى الأوَّل قوله: ({أَخَاهُ}) مفعولُ ({وَهَبْنَا}) وعلى الثاني بدلٌ، و({هَارُونَ}) عطفُ بيان؛ كقولك: (رأيت رجلًا أخاك زيدًا)، وكان هارونُ أكبرَ مِن موسى بثلاث سنينَ، وقال مقاتلٌ: ذكر الله موسى في القرآن في مئةٍ وثمانيةَ عشرَ موضعًا، وذكر الله هارونَ في أحدَ عشرَ موضعًا.
          و{مُوسَى} على وزن (فُعْلَى) مِنَ المَوس؛ وهو حَلقُ الشَّعر، والميم أصليَّةٌ، وقال اللَّيث: اشتقاقه مِنَ الماء والشجر؛ فـ(مو) ماءٌ، و(سا) شجرٌ، لحال التابوت والماء، وهو عبرانيٌّ عُرِّبَ، وهو ابن عِمْرَان بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ‰ ، وذكر بعضُهم عازرَ بعد قاهث، ونكح عِمْرَانُ تُجيب بنت أشمويل بن بركيا بن يقسان بن إبراهيم، فولدت له هارونَ وموسى ♂ ، وقيل: اسم أمِّهما أناجيا، وقيل: أباذخت، قال السهيليُّ: أباذخا، وقال ابن إسحاق: تُجيب، وقال الثعلبيُّ: يوخايذ، وهو المشهورُ، ووُلِدَ موسى وقد مضى مِن عُمْرِ عِمْرَان سبعون سنةً، وجميعُ عُمْرِ عِمْرَانَ مئةٌ وسبعٌ وثلاثون سنةً.
          (ص) يُقَالُ لِلْوَاحِدِ وَالاِثْنَيْنِ وَالجَمْعِ: نَجِيٌّ، وَيُقَالُ: {خَلَصُوا نَجِيًّا} اعْتَزَلُوا نَجِيًّا، وَالجَمِعُ: أَنْجِيَةٌ، {يَتَنَاجَوْنَ}.
          (ش) (النَّجِيُّ) بفتح النون، وكسر الجيم، وتشديد الياء آخر الحروف، قال ابن الأثير: هو المناجي؛ وهو المخاطب للإنسان، المحدِّثُ له.
          وذكر البُخَاريُّ: أنَّهُ (يُقَالُ لِلْوَاحِدِ) : (نَجِيٌّ)، وللاثنين: (نجيٌّ)، وللجمع: (نجيٌّ)، وفي «المطالع»: يقال: رجلٌ نجيٌّ، ورجلان نجيٌّ، ورجالٌ نجيٌّ، ومثله في رواية الأصيليِّ في قوله تعالى: {خَلَصُوا نَجِيًّا}، وأوَّلُه: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا}[يوسف:80]، وفسَّره البُخَاريُّ بقوله: / (وَيُقَالُ: {خَلَصُوا نَجِيًّا} اعْتَزَلُوا نَجِيًّا) ؛ أي: فلمَّا يئِسوا مِن يوسفَ؛ خَلَصُوا نَجِيًّا؛ أي: اعتزلوا وانفردوا عنِ الناس خالصين، لا يُخالِطُهم سواهم، قال الزَّمَخْشَريُّ: ذوي نَجوى، أو فوجًا نجيًّا؛ أي: مناجيًا بعضهم بعضًا، قال الزجَّاج: انفردوا متناجِينَ فيما يعملون في ذهابهم إلى أبيهم مِن غير أخيهم.
          وذكر البُخَاريُّ هذا؛ تأكيدًا لِما قبله مِن أنَّ (النجيَّ) يُطلَقُ على الجمع؛ لأنَّ {نَجِيًّا} في الآية بمعنى: المتناجينَ، ونصبُه على الحال، وقال الزَّمَخْشَريُّ: النجيُّ على معنَيَينِ؛ يكون بمعنى: المناجي؛ كالعشير والسَّمير؛ بمعنى: المعاشِر والمسامِر، ومنه قوله تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}[مريم:52]، وبمعنى المصدر الذي هو «التناجي»؛ كما قيل: «النَّجْوَى» بمعناه، ومنه قيل: قومٌ نجيٌّ؛ كما قيل: هم صديقٌ؛ لأنَّه بزِنَة المصادر.
          قوله: (وَالجَمْعُ: أَنْجِيَةٌ) أراد به أنَّ (النجيَّ) إذا أُريدَ به المفردُ فقط؛ يكون جمعُه (أنجيةً) ؛ كما في قول الشاعر:
إذا ما القوم كانوا أنجية
واضطرب اليومُ اضطرابَ الأرشية
          قوله: ({يَتَنَاجَوْنَ}) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالعُدْوَانِ} الآية[المجادلة:8]، نزلت في اليهود، وكانت بينهم وبين النَّبِيِّ صلعم موادَعةٌ، فإذا مرَّ بهم رجلٌ مِن أصحاب النَّبِيِّ صلعم ؛ جلسوا يتناجَون فيما بينهم، حَتَّى يظنَّ المؤمنُ أنَّهم يتناجَون بقتله، أو بما يكرهُ، فيترك الطريق عليهم مِنَ المخافة، فبلغ ذلك النَّبِيَّ صلعم ، فنهاهم عنِ النَّجْوَى فلم ينتهوا، فعادوا إلى النَّجْوَى، فأنزل الله هذه الآية.
          (ص) {تَلَقَّفُ} تَلَقَّمُ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَّفُ مَا يَأْفِكُونَ}[الأعراف:117] وفسَّره بقوله: (تَلَقَّمُ)، وكذا فسَّره أبو عُبيدة.