عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت}
  
              

          ░44▒ (ص) بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا}[مريم:16].
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان قول الله تعالى: ({وَاذْكُرْ...}) إلى آخره؛ يعني: اذكر يا مُحَمَّدُ ({فِي الكِتَابِ}) أي: في القرآن ({مَرْيَمَ}) بنت عِمْرَان بن ماثان.
          قوله: ({إِذِ انْتَبَذَتْ}) كلمة {إِذْ} بدلٌ مِن {مَرْيَمَ} بدل الاشتمال، {انْتَبَذَتْ} أي: اعتزلت، وانفردت، وجلست، وتخلَّت للعبادة ({مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا}) أي: في مكانٍ، ({شَرْقِيًا}) مِمَّا يلي شرقيَّ بيتِ المقدس، أو شرقيًّا مِن دارها، وقيل: قعدت في مشرقةٍ للاغتسال مِنَ الحيض، وعن الحسن البِصْريِّ: اتَّخذتِ النصارى المشرقَ قبلةً؛ لأنَّ مريمَ انتبذت مكانًا شرقيًّا.
          (ص) {إِذْ قَالَتِ المَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ}[آل عِمْرَان:45].
          (ش) قال الزَّمَخْشَريُّ: ({إِذْ قَالَتِ} بدلٌ مِن {وَإِذْ قَالَتِ المَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ}[آل عِمْرَان:42]، ويجوز أن يُبْدَل مِن {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} على أنَّ الاختصامَ والبشارةَ وقعا في زمانٍ).
          قوله: ({بِكَلِمَةٍ}) أي: بولدٍ يكون وجوده بكلمةٍ مِنَ الله؛ أي: بقوله: (كن) فيكون، اسمه المسيح ابن مريم؛ يعني: يكون مشهورًا بهذا في الدنيا، يعرفه المؤمنون بذلك.
          (ص) {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} إِلَى قَوْلِهِ: / {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[آل عِمْرَان:33-37].
          (ش) يخبر تعالى أنَّهُ اصطفى _أي: اختار_ آدمَ؛ لأنَّه خلقه بيده، ونفخ فيه مِن روحه، وأسجده ملائكَتَه، وعلَّمه أسماءَ كلِّ شيءٍ، وأسكنه جنَّته، واصطفى نوحًا ◙ ، وجعله أَوَّلَ رسولٍ بعثه إلى أهل الأرض، لمَّا عبد الناسُ الأوثانَ، واصطفى آل إبراهيمَ، ومنهم سيِّدُ البشر وخاتم الأنبياء مُحَمَّدٌ صلعم ، ومنهم آلُ عِمْرَان والدِ مريم بنت عِمْرَان أمِّ عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليهم.
          قوله: (إِلَى قَوْلِهِ...) أي: اقرأ إلى قوله: ({يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ}) ؛ وهو {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[آل عِمْرَان:34]، وبعده ثلاثُ آياتٍ أخرى؛ آخرها: {بِغَيْرِ حِسَابٍ}[آل عِمْرَان:37].
          (ص) قَالَ ابْنُ عَبَّاس: وَآلُ عِمْرَانَ المُؤْمِنُونَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَآلِ عِمْرَانَ، وَآلِ يَاسِينَ، وَآلِ مُحَمَّدٍ صلعم ، يَقُولُ: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}، وَهُمُ المُؤْمِنُونَ.
          (ش) أشار بهذا إلى قوله تعالى: ({وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ}) [آل عِمْرَان:33] عامٌّ، وأُرِيدَ به الخصوصُ؛ وهو أنَّ المرادَ المؤمنون مِن آل إبراهيم وآل عِمْرَان، كما قال ابن عَبَّاسٍ.
          قوله: (وَآلِ يَاسِين) المرادُ منهم الذين في قوله تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ}[الصافات:123]، وقيل: إدريس، وقيل: غيره.
          قوله: (يَقُولُ: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ...}) إلى آخره؛ أي: يقول ابن عَبَّاس: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}[آل عِمْرَان:68]، (وَهُمُ المُؤْمِنُونَ)، والذين لم يتَّبعوه لا يُعدُّون مِنَ الآلِ؛ وحاصل هذا التأكيد بأنَّ المرادَ مِن هذا العموم الخصوصُ، كما ذكرنا.
          (ص) وَيُقَالُ: آلُ يَعْقُوبَ: أَهْلُ يَعْقُوبَ، فَإِذَا صَغَّرُوا (آلَ)، ثُمَّ رَدُّوهُ إِلَى الأَصْلِ؛ قَالُوا: (أُهَيْلٌ).
          (ش) أشار بهذا إلى أنَّ أصلَ (آل) أهلٌ، ألَا ترى أنَّهم إذا أرادوا أن يصغِّروه؛ يقولون: (أُهَيْلٌ) ؛ لأنَّ التصغيرَ يردُّ الأشياء إلى أصولها، ولكنْ فيه خلافٌ؛ فالذي ذكرناه هو قول سيبويه والجمهور، وقيل: أصلُ (آل) أَوَلٌ، مِن آلَ يؤولُ؛ إذا رجع؛ لأنَّ الإنسانَ يرجع إلى آله، فقلبتِ الواوُ ألفًا؛ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها.