عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى:{وإلى مدين أخاهم شعيبًا}
  
              

          ░34▒ (ص) بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} الآية[الأعراف:85]، و(شُعَيبٌ) : اسمٌ عربيٌّ، وقال مُقاتِلٌ: ذكره الله في القرآن في تسعةِ مواضِعَ، وهو شُعَيْب بن يُوَيب بن رَعْويل بن غَيْفا بن مَدْيَن بن إبراهيم ◙ ، وقال وَهْب بن مُنبِّه: شُعَيْب بن غَيْفا بن يُوَيب بن مَدْيَن، وقال الثعلبيُّ: شُعَيْب بن بَحْرون بن يُوَيب بن مَدْيَن، وقال ابنُ إسحاق: شُعَيْب بن ميكيل بن بشحَر بن لاوي بن يعقوب، وقيل: شُعَيْب بن نُوبِل بن رَعْوَيل بن يُوَيب بن غَيْفا بن مَدْيَن بن إبراهيم ◙ ، وقيل: شُعَيْب بن ضَيفون بن غَيْفا بن ثابت بن مَدْيَن بن إبراهيم، ويقال: جدَّتُه أو أُمُّه بنتُ لوط، وكان ممَّن آمَنَ بإبراهيم، وهاجَرَ معه، ودخل دِمَشْق.
          قوله: ({وَإِلَى مَدْيَنَ}) أي: وإلى أهلِ مَدْيَن، وكانوا قومًا عُربًا، يقطعون الطريق، ويُخيفون المارَّة، ويبخسون المكايِيل والموازين، وكانوا مكَّاسين، لا يَدَعون شيئًا إلَّا مكسوه، فأرسله الله إليهم، فقال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ} أي: وحِّدوه، وقد قصَّ الله قصَّته في القرآن، وقال علماء السِّيَر: أقام شُعَيْبٌ مدَّةً بعد هلاك قومه، ووصَلَ إليه موسى، وزوَّجه بنتَه، وقال ابن الجوزيِّ: ثُمَّ خرج إلى مكَّة، فمات بها وعمرُه مئةٌ وأربعون سنةً، ودُفِنَ في المسجد الحرام حيال الحَجَر الأسود، وقال سِبْطُه: وعند طبريَّة بالساحل قريةٌ يقال لها: حِطِّين، فيها قبرٌ يقال: إنَّهُ قبر شُعَيْب ◙ ، وقال أبو المفاخِر إبراهيمُ بن جبريلَ في «تاريخه»: إنَّ شعيبًا كان عمرُه ستَّ مئة سنةٍ وخمسين سنةً.
          (ص) إِلَى أهْلِ مَدْيَنَ؛ لأنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ؛ مِثلُ: {وَاسْألِ القَرْيَةِ}[يوسف:82] {وَ} اسألِ {العِيرَ}؛ يَعْنِي: أهْلَ القَرْيَةِ وأهْلَ العِيرِ.
          (ش) أشار بهذا إلى أنَّ معنى قوله: {إِلَى مَدْيَنَ}: (إِلَى أهْلِ مَدْيَنَ؛ لأنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ)، وهي مدينة شُعَيْب، على بحر القُلْزُم، محاذيةً لتبوك على نَحْوِ ستِّ مراحلَ منها، وبها البئرُ التي استسقى منها موسى ◙ لسائمة شُعَيْب ◙ ، وهي الآن خَرابٌ.
          وأشار بقوله: [({وَاسْأَلِ القَرْيَةَ}) إلى أنَّ نظير قولِه تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ} هو قولُه: {وَاسْأَلِ القَرْيَةَ} في أنَّ المضاف فيهما محذوفٌ؛ وهو لفظ (أهل)، وكذلك قولُه]: ({و} اسْأَلِ {العِيرَ}) أي: أهلَ العير؛ لأنَّ القرية والعيرَ لا يصحُّ السؤالُ منهما.
          (ص) {وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} لَمْ تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ، وَيُقالُ إذَا لَمْ تَقْضِ حاجَتَهُ: ظَهَرْتَ حاجَتِي، وَجَعَلَتْنِي ظِهْرِيًّا، قال: الظِّهْرِيُّ أنْ تأخُذَ معَكَ دَابَّةً أوْ وِعَاءً تَسْتَظْهِرُ بِهِ.
          (ش) أشار بقوله: ({وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}[هود:92]) إلى ما في قوله تعالى: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}[هود:92]، ثُمَّ فسَّره بقوله: (لَمْ تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ)، / و(الظِّهْرِيُّ) منسوبٌ إلى الظَّهر، وكسرُ الظاء مِن تغييرات النسب؛ كما تقول في (أمسِ) : إمسِيٌّ؛ بكسر الهمزة.
          قوله: (وَيُقالُ إذَا لَمْ تَقْضِ حاجَتَهُ) يعني: إذا لم تقضِ حاجةَ مَن سألك بها تقول: ظهرت حاجتي؛ أي: جعلتَها وراء ظهرك، وقال الجَوْهَريُّ: وقولهم: ظهر فلانٌ بحاجتي؛ إذا استخفَّ بها.
          قوله: (وَجَعَلَتْنِي ظِهْرِيًّا) يعني: يقال أيضًا إذا لم يلتفت إليه، ولا قضى حاجته: جعلتَني ظهريًّا؛ أي: جعلتني وراء ظهرك.
          قوله: (قَالَ: الظِّهْرِيُّ) الظاهرُ أنَّ الضميرَ في (قال) يرجع إلى البُخَاريِّ، وأشار به إلى أنَّ الظِّهريَّ بصورة النسبة، يقال أيضًا لمَنْ يأخذ معه دابَّةً أو وعاءً يستظهِر به؛ أي: يتقوَّى به.
          (ص) مَكانَتُهُمْ وَمَكَانُهُمْ واحِدٌ.
          (ش) هذا فيه نظرٌ؛ لأنَّ في قصة شُعَيْب هكذا: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ}[الأنعام:135]؛ بمعنى: مكانكم، وأَمَّا ({مَكَانَتِهِمْ}) ؛ ففي (سورة يس) وهو قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ}[يس:67]، وفي التفسير: المكانة والمكانُ واحدٌ؛ كالمقامة والمقام.
          (ص) {يَغْنَوْا} يَعِيشُوا.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}[هود:68-69]، ثُمَّ فسَّره بقوله: (يَعْيشُوا) ؛ لأنَّه لمَّا ذكرَ ({يَغْنَوا}) بدون (لم)، فسَّر (يَعِيشُوا) أيضًا بدون (لم)، والأصل {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوا فِيهَا} أي: لم يعيشوا، ولم يقيموا بها.
          (ص) {تَأسَ} تَحْزَنُ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَلَا تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ}[المائدة:68]، وفسَّر ({تَأْسَ}) بقوله: (تَحْزَنُ)، ولم يذكرْ لفظ (لا) فيهما.
          وذكرُ هذا ليس في محلِّه؛ لأنَّه في قضيَّة موسى ◙ .
          (ص) {آسَى} أحْزَنُ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}[الأعراف:93]، وفسَّر ({آسَى}) بقوله: (أَحْزَنُ) ؛ والمعنى: كيف أحزن وأتندَّم وأتوجَّع؟
          (ص) وَقَالَ الحَسَنُ: {إنَّكَ لأَنْتَ الحَلِيمُ الرِّشِيدُ} يَسْتَهْزِئونَ بهِ.
          (ش) أي: قال الحسن البِصْريُّ في قوله تعالى: ({إنَّكَ لأَنْتَ الحَلِيمُ الرِّشِيدُ}) [هود:87] (يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ) يعني: أنَّهم عكسوا على سبيل الاستعارة التهكميَّة؛ إذ غرضُهم أنت السفيه الغويُّ، لا الحليمُ الرشيد، ووصل ذلك ابن أبي حاتم مِن طريق أبي المليح عنه.
          قوله: (بِهِ) أي: بشعيب.
          (ص) قَالَ مُجَاهِدٌ: {لَيْكَةُ} {الأيْكَةُ}.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ}[الشعراء:176]، قرأ بعضهم: {لَيْكَةُ} باللَّام على وزن (ليلة)، فقال مجاهد: هو نفس {الأَيْكَة}، وقال الرشاطيُّ: {الأَيْكَةِ} كانت منازلَ قوم شُعَيْب ◙ ، مِن ساحل البحر إلى مدين، وكان شجرُهم المقلَ، و{الأَيْكَةِ} عندَ أهل اللُّغة: الشجرُ الملتفُّ، وكانوا أصحابَ شجرٍ ملتفٍّ، ويقال: {الأَيْكَة}: الغيضة، و{لَيْكَة}: اسم البلد حولها؛ كما قيل: في مكَّة وبكَّة، وقال أبو جعفر النحاس: ولا يعلم {ليكة} اسمُ بلدٍ.
          (ص) {يَوْمَ الظُّلَّةِ} إظْلَالُ الغَمامِ العَذَابَ عَلَيْهِمْ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}[الشعراء:189]، يُروَى أنَّهُ حُبِسَ عنهم الهواءُ، وسُلِّطَ عليهم الحرُّ، فأُخِذ بأنفاسهم، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البريَّة، فأظلَّتهم سحابةٌ، وجدوا لها بردًا ونسيمًا، فاجتمعوا تحتها، فأمطرت عليهم نارًا، فاحترقوا، وكان شُعَيْبٌ ◙ مبعوثًا إلى أصحاب مدين وأصحاب {الأَيْكَةِ}، فأُهْلِكَت مدينُ بصيحة جبريل ◙ ، وأصحابُ {الأَيْكَةِ} بعذابِ {يَوْمِ الظُّلَّةِ}.
          واعلم أنَّ البُخَاريَّ لم يذكر في هذا الباب غيرَ تفسير الألفاظ المذكورة فيه، ولم يقع هذا أيضًا إلَّا في رواية المُسْتَمْلِي والكُشْميهَنيِّ.