عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب}
  
              

          ░40▒ (ص) باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ، نِعْمَ العَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ}[ص:30].
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان ما ذُكِرَ في قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا...}[ص:30] إلى آخره، وليس في بعض النُّسَخ لفظُ (باب)، بل المذكور قولُ الله تعالى: {وَوَهَبْنَا...} إلى آخره.
          قوله: (نِعْمَ العَبْدِ) المخصوصُ بالمدح محذوفٌ.
          قوله: (إنَّهُ أَوَّابٌ) تعليلٌ لكونه ممدوحًا؛ لكونه أوَّابًا؛ أي: رجَّاعًا إليه بالتوبة، أو مسبِّحًا مؤوِّبًا للتسبيح ومرجعًا له؛ لأنَّ كلَّ مؤوِّبٍ أوَّابٌ.
          (ص) الرَّاجِعُ المُنِيبُ.
          (ش) هذا تفسير (الأوَّاب)، وفسَّره بأنَّه (الرَّاجِعُ) عن الذنوب، و(المُنِيبُ) مِنَ الإنابة؛ وهي الرجوع إلى الله بكلِّ طاعةٍ.
          (ص) وَقَوْلِهِ: {هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}[ص:35].
          (ش) و(قَوْلِهِ) بالجرِّ عطفٌ على (قولِ الله)، في قوله: (باب قول الله تعالى).
          قوله: ({هَبْ لِي}) أي: أعطِني ({مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}) يعني: مِن دوني، وقال ابن كَيْسان: لا يكون لأحدٍ مِن بعدي، وقال يزيد بن وهب: {هَبْ لِي مُلْكًا} لا أُسْلَبُهُ في باقي عمري، كما سلبته في ماضي عمري.
          وقال مقاتل بن حيَّان: كان سليمان ملكًا، ولكنَّه أراد بقوله: {لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} تسخيرَ الرياح والطير، وقيل: إِنَّما سأل ذلك؛ ليكون له علمًا على المغفرة، وقبولِ التوبة، حيث أجابَ الله دعاءَه، وردَّ عليه مِلكه، وزاد فيه.
          (ص) وَقَوْلِهِ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ [عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}[البقرة:102].
          (ش) و(قَوْلِهِ) بالجرِّ أيضًا عطفٌ على قوله: {وَهَبْ لِي مُلْكًا}.
          قوله: ({وَاتَّبَعُوا}) أي: اليهودُ، ما تتلو الشياطين] أي: ما ترويه وتخبره وتحدِّثه الشياطينُ.
          قوله: ({عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}) وعدَّاه بـ({عَلَى}) ؛ لأنَّه ضمَّن معنى {تَتْلُو}: تكذِّبُ، وقال ابن جرير: {عَلَى} هنا بمعنى: (في) أي: في مِلك سليمان، ونقله عن ابن جُرَيْج وابن إسحاق.
          قُلْت: التضمينُ أولى وأحسنُ، وقال السُّدِّيُّ ما ملخَّصه: إنَّ الشياطينَ كانوا يصعدون إلى السماء، فيسمعون مِنَ الملائكة ما يكون في الأرض، فيأتونَ الكهنةَ، فيخبرون به، فتحدِّثُه الكهنةُ للناس، فيجدونه كما قالوا، وأدخلتِ الكهنةُ فيه غيرَه، فزادوا مع كلِّ كلمةٍ سبعين كلمةً، فاكتتب الناسُ ذلك، وفشِيَ في بني إسرائيل أنَّ الجنَّ تعلَمُ الغيبَ، فبعث سليمانُ في الناس، فجمع تلك الكتبَ، وجعلها في صندوقٍ، ثُمَّ دفنها تحت كرسيِّه، ولم يكن أحدٌ مِنَ الشياطين يستطيع أن يدنوَ مِنَ الكرسيِّ إلَّا احترق، فلمَّا مات سليمانُ؛ تمثَّلَ شيطانٌ في صورة آدميٍّ، وأتى نفرًا مِن بني إسرائيل، فدلَّهم على تلك الكتبِ، فأخرجوها، فقال لهم الشيطانُ: إنَّ سليمانَ كان يضبط الإنس والجنَّ والطير بهذا السحر، ثُمَّ طارَ، وذهب، وفشِيَ في الناس أنَّ سليمانَ كان ساحرًا، فاتَّخذت بنو إسرائيل تلك الكتبَ، فلمَّا جاء النَّبِيُّ صلعم ؛ خاصموه بها، فأنزل الله تعالى هذه الآيةَ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} الآية[البقرة:102].
          (ص) {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}[سبأ:12].
          (ش) أي: وسخَّرنا ({لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ})، وقال في آيةٍ أخرى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً}[ص:36] أي: ليِّنةً {حَيْثُ أَصَابَ} أي: حيث أراد.
          قوله: ({غُدُوُّهَا}) أي: غدوُّ الريح ({شَهْرٌ}) يعني: مسير الريح شَهرٌ في غدوته، وشهرٌ في روحته، وقال مجاهد: كان سليمانُ يغدو مِن دمشقَ، فيقيل بإصطخر، ويروح مِن إصطخر، فيقيل بكابل، وكان بين إصطخر وكابل مسيرةُ شهرٍ، وما بين دمشقَ وإصطخر مسيرةُ شهرٍ.
          (ص) {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ}[سبأ:12] أَذَبْنَا لَهُ عَيْنَ الحَدِيدِ.
          (ش) ({أَسَلْنَا}) مِنَ الإسالة، وفسَّره بقوله: (أَذَبْنَا لَهُ) مِنَ الإذابة، وفسَّر ({عَيْنَ القِطْرِ}) بالحديد، وقال قتادة: عينٌ مِن نحاسٍ كانت باليمن. وقال الأَعْمَش: سِيلَتْ له؛ كما يسال الماء، وقيل: لم يُذَبِ النحاسُ لأحدٍ قبله.
          (ص) {وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ}[سبأ:12] إِلَى قَوْلِهِ: {مِنْ مَحَارِيبَ}[سبأ:13].
          (ش) أي: وسخَّرنا له {مِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ. يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ:12-13]. /
          قوله: ({وَمَنْ يَزِغْ}) أي: ومَن يمِل مِنَ الجنِّ ({عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ}) في الآخرة، وقيل: في الدنيا؛ وذلك أنَّ اللهَ تعالى وكَّل بهم مَلَكًا بيده سوطٌ مِن نارٍ، فمَن زاغ عن أمره؛ ضربه ضربةً أحرقته.
          (ص) قال مُجَاهِدٌ: بُنْيَانٌ ما دُونَ القُصُورِ.
          (ش) فسَّر مجاهد (المَحَارِيبَ) بقوله: (بُنْيَانٌ ما دُونَ القُصُورِ)، وقال أبو عبيدة: (المحاريب) جمع (محراب) وهو مُقدَّم كلِّ بيت، وهو أيضًا المسجد والمصلَّى.
          (ص) {وَتَماثِيلَ}.
          (ش) جمع (تمثالٍ) وهو الصور، وكان عملُ الصور في الجدران وغيرِها سائغًا في شريعتهم.
          (ص) {وَجِفَانٍ كَالجَوَابِ}[سبأ:13] كَالحِيَاضِ لِلإِبِلِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس: كَالجَوْبَةِ مِنَ الأَرْضِ.
          (ش) (الجِفَانُ) جمع (جفنة) وهي القصعة الكبيرة، شُبِّهَتْ بالجوابي، وشُبِّهَتِ الجوابي بالحياض التي يُجْبَى فيها الماء؛ أي: يُجمَعُ، واحدها: جابيةٌ، قال الأعشى:
تَروحُ على آل المحلَّق جفنةٌ                     كجابية الشيخِ العراقيِّ تَفْهَقُ
          ويُقَال: كان يقعدُ على جفنةٍ واحدةٍ مِن جفانِ سليمانَ ألفُ رجلٍ، يأكلون بين يديه.
          قوله: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس: كَالجَوْبَةِ) أي: الجفان كالجَوبة، بفتح الجيم وسكون الواو والباء المُوَحَّدة، وهي موضعٌ ينكشف في الحرَّة، وينقطع عنها.
          (ص) {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}[سبأ:13] إِلَى قَوْلِهِ: {الشَّكُورُ}[سبأ:13].
          (ش) ({رَاسِيَاتٍ}) أي: ثابتاتٍ، لا يُحَوَّلْنَ ولا يُحَرَّكْنَ مِن أماكنهنَّ؛ لعِظَمِهنَّ، وفي «تفسير النَّسَفِيِّ»: وكانت باليمن، ومنه قيل للجبال: (رواسي).
          قوله: (إِلَى قَوْلِهِ: {الشَّكُورُ}) يعني: اقرأ إلى قوله: {الشَّكُورُ}؛ وهو قوله: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}.
          قال النَّسَفِيُّ: أي: وقلنا: اعملوا شُكْرًا؛ يعني: اعملوا بطاعة الله يا آلَ داود؛ شُكْرًا على نِعَمِه، و{شُكْرًا} في محلِّ المصدر؛ على تقدير: اشكروا شُكْرًا؛ لأنَّ {اعْمَلُوا} فيه معنى «اشكروا»؛ مِن حيث إنَّ العملِ فيه للمُنعِمِ شكرٌ له، وقيل: انتصب {شُكْرًا} على أنَّهُ مفعولٌ له؛ أي: اعملوا لله واعبدوه على وجه الشُّكر لنعمائه، وقيل: انتصبَ على الحال؛ أي: شاكِرين، وقيل: يجوز أن ينتصب بـ{اعملوا} مفعولًا به؛ ومعناه: إنَّا سخَّرنا لكم الجنَّ يعملون لكم ما شئتُم، فاعملوا أنتم شُكرًا؛ على طريق المشاكلة.
          قوله: ({الشَّكُورُ}) المتوفِّرُ على أداء الشكر، الباذلُ وُسْعَهُ فيه، قد شَغَل به قلبَه ولسانه وجوارِحَه اعتقادًا واعترافًا، وعن ابن عَبَّاس: {الشَّكُورُ} مَن يشكرُ على أحواله كلِّها، وقال السُّدِّيُّ: هو مَن يشكرُ على الشكر، وقيل: مَن يرى عجزَه عنِ الشكر.
          (ص) {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ} الأَرَضَةُ {تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ}، عَصَاهُ، {فَلَمَّا خَرَّ} إِلَى قَوْلِهِ: {المُهِينِ}[سبأ:14].
          (ش) أي: فلمَّا حَكَمنا على سليمانَ الموتَ؛ ما دلَّ الجنَّ على موته ({إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ}) وهي الأرضَةُ؛ وهي دوَيبَّةٌ تأكل الخشبَ.
          قوله: ({مِنْسَأَتَهُ}) أي: (عَصَاهُ).
          قوله: ({فَلَمَّا خَرَّ}) أي: سقط سليمانُ ميتًا.
          قوله: (إِلَى قَوْلِهِ: {المُهِينِ}) يعني: اقرأ إلى قوله: {المُهِينِ}، وهو قوله: {تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ [مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ}[سبأ:14].
          قوله: ({تَبَيَّنَتِ الجِنُّ}) ] جوابٌ (لمَّا) أي: لمَّا علمتِ الجنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغيب، وكانوا يدعون أنَّهم يعلمون الغيب.
          قوله: ({فَي العَذَابِ المُهِينِ}) أي: في العذاب الذي يهين المعذَّب؛ يعني: ما عملوا مسخَّرين وهو ميتٌ، وهم يظنُّونه حيًّا.
          (ص) {حُبَّ الخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي}[ص:32] مِنْ ذِكْرِ رَبِّي.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالحِجَابِ}[ص:32].
          قوله: ({حُبَّ الخَيْرِ}) قال الفَرَّاء: الخيل والخير بمعنًى في كلام العرب، والنَّبِيُّ صلعم سمَّى زيدَ الخيل: زيدَ الخير، والخيرُ: المالُ أيضًا.
          قوله: ({عَنْ ذِكْرِ رَبِّي}) قال قتادة: عن صلاة العصر.
          قوله: ({حَتَّى تَوَارَتْ}) يعني: الشمسُ؛ أي: غابت بالحجاب؛ وهو جبلٌ دون القاف، بمسيرة سنة تغرب الشمسُ مِن ورائه، وقيل: معناه حَتَّى استترتِ الشمسُ بما يحجبها عن الأبصار، والإضمارُ قبل الذكر يجوز إذا جرى ذكرُ الشيء أو دليلُ الذكر، وقد جرى هنا؛ وهو قوله: {بِالعَشِيِّ}؛ وهو ما بعد الزوال.
          (ص) / {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ}[ص:33] يَمْسَحُ أَعْرَافَ الخَيْلِ وَعَرَاقِيبَهَا.
          (ش) أَوَّلُ الآية: {رُدُّوهَا عَلَيَّ}؛ وهي المذكورة قبله بقوله: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ}، وكان سليمان ◙ صلَّى الصلاة الأولى، ثُمَّ قعد على الكرسيِّ وهي تُعرَضُ عليه، فعُرِضَت عليه منها تسعُ مئةٍ، وكانت ألفًا، وكان سليمان غزا دمشقَ ونصيبين، فأصاب منهما ألفَ فرسٍ، وقال مقاتلٌ: ورث سليمان مِن أبيه داود ألف فرسٍ، وكان أبوه أصابها مِنَ العمالقة، وقال الحسنُ: بلغني أنَّها كانت خيلًا خرجت مِنَ البحر، لها أجنحةٌ، وقبل أن يكمل العرضَ غربت الشمسُ، ففاتته صلاةُ العصر، ولم يعلم بذلك، فاغتمَّ لذلك، فقال: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا}؛ أي: فأقبلَ يمسح بسوقها وأعناقها بالسيف، وينحرها تقرُّبًا إلى الله تعالى، وطلبًا لرضاه، حيث اشتغل بها عن طاعته.
          قوله: (يَمْسَحُ أَعْرَافَ الخَيْلِ وَعَرَاقِيبَهَا) [تفسيرٌ لما قبله، و(الأعراف) جمع (عُرفٍ) ؛ بضم العين، وهو شعر عنق الخيل] و(العراقيبُ) جمع (عرقوبٍ) ؛ وهو العصب الغليظ عند عقب الإنسان.
          (ص) {الأصْفَادِ} الوَثاقُ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ}[ص:38]، وفسَّر ({الأَصْفَاد}) بـ(الوَثاق)، وروى ابن جريرٍ مِن طريق السُّدِّيِّ قال: {مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ}: أنْ تُجمَعَ اليدانِ إلى العنق بالأغلال، وقال أبو عُبيدة: الأصفاد: الأغلال، واحدها: صَفَدٌ، ويُقال للعَطاء أيضًا: صَفَدٌ.
          قوله: ({وَآخَرِينَ}) عطفٌ على قوله: ({وَالشَّيَاطِينِ}) أي: سخَّرنا له الشياطينَ، وسخَّرنا له آخَرِينَ؛ يعني: مَرَدة الشياطين، مُقرَّنين بالأصفاد، يقال: صَفَّدَه؛ أي: شدَّه، وأوثقه.
          (ص) قَالَ مُجَاهِدٌ: {الصَّافِنَاتُ} صَفَنَ الفَرَسُ: رَفَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ، حَتَّى تَكُونَ عَلَى طَرَفِ الحَافِرِ، {الجِيَادُ} السِّرَاعُ.
          (ش) أي: قال مجاهدٌ في قوله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ}[ص:31]: إنَّ ({الصَّافِنَاتُ}) مِن (صَفَنَ الفَرَسُ...) إلى آخره؛ يعني: مشتقٌّ منه، وهو جمع (صافنة)، وقال النَّسَفِيُّ: الصافنُ مِنَ الخيل: القائمُ على ثلاث قوائم، وقد أقام الرابعةَ على طرف الحافرِ، والصفون لا يكاد يكون في الهُجْنِ، وإِنَّما هو في العراب الخُلَّص.
          ووصل الفِرْيَابيُّ إلى مجاهد ما قاله، لكن في روايته: (يديه)، والموجود في أصل البُخَاريِّ: (رِجلَيْه)، وصوَّب القاضي عياض ما عند الفِرْيَابيِّ.
          قوله: ({الجِيَادُ} السِّرَاعُ) بكسر السين المُهْمَلة، وفي التفسير: {الجِيَادُ} المسرعةُ في الجري، جمع (جوادٍ)، وقيل: جمع (جَيِّد)، جمَعَ لها بين وصفَين محمودَين.
          (ص) {جَسَدًا} شَيْطانًا.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا}[ص:34]، وفسَّر ({جَسَدًا}) بقوله: (شَيْطَانًا).
          وقال الفِرْيَابيُّ: حَدَّثَنَا ورقاء عن ابن أبي نَجِيحٍ عن مجاهدٍ في قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا}، قال: شيطانًا يقال له: آصَف، قال له سليمان ◙ : كيف تفتن الناس؟ قال: أرني خاتمك؛ أخبرْكَ، فأعطاه، فنبذه آصَف في البحر، فساخ، فذهب سليمان، وقعد آصَف على كرسيِّه، ومنع اللهُ نساءَ سليمان، فلم يقربهنَّ، فأنكرته أمُّ سليمان، وكان سليمان ◙ يستطعم، ويعرِّفهم بنفسه، فيكذِّبونه، حَتَّى أعطته امرأةٌ حوتًا، فطيَّبَ بطنه، فوجد خاتمه في بطنه، فردَّ الله إليه مِلكه، وفرَّ آصَف، فدخل البحرَ، ورواه ابن جريرٍ مِن وجهٍ آخرَ عن مجاهدٍ: أنَّ اسمَه آصَرُ، آخرُه راءٌ، ومِن طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عَبَّاسٍ: أنَّ اسمَ الجنِّيِّ صخرٌ، ومِن طريق السُّدِّيِّ كذلك، انتهى.
          قُلْت: في هذا نظرٌ مِن وجوه:
          الأَوَّل: أنَّهُ يبعُد مِن سليمان أن يناولَ خاتمه لغيره؛ ليراه مع علمه أنَّ مِلكَه قائمٌ به.
          والثاني: لا يليقُ أن يقعدَ شيطانٌ على كرسيِّ نبيٍّ مرسَلٍ، الذي أُعْطِي ما لا أُعْطِيَ غيرُه مِنَ المِلك العظيم.
          والثالث: أنَّ آصَف _بالفاء في آخره_ هو معلِّم سليمان، وكاتبه في أيَّام مِلكه.
          والذي أظنُّ أنَّ الصحيحَ أنَّ سليمانَ لمَّا افتُتِنَ بسبب ابنة ملكِ صَيْدُونَ لمَّا غزاها، واصطفى ابنة مَلكِها لنفسه، وأحبَّها؛ صوَّرت في بيتها صورة أبيها، وكان سليمانُ ◙ إذا خرج مِن بيتها؛ كانت هي وجواريها يعبدون هذه الصورةَ، حَتَّى أتى على ذلك أربعون يومًا، وبلغ ذلك آصَفَ بنَ بَرْخِيَا، فعَتَب على سليمانَ بسبب ذلك، فعند ذلك / سقطَ الخاتمُ مِن يده، وكان كلَّما أعاده؛ كان يسقط، فقال له آصَف: إنَّك مفتونٌ، ففِرَّ إلى الله تائبًا مِن ذلك، وأنا أقوم مقامك، وأسير في عيالك وأهل بيتك بسيرك، إلى أن يتوبَ الله عليك، ويردَّك إلى مِلكك، ففرَّ سليمان هاربًا إلى الله تعالى، وأخذ آصَفُ الخاتمَ، فوضعه في يده، فثبت، وغاب مدَّة أربعين يومًا، ثُمَّ إنَّ الله لمَّا قبل توبته؛ رجَع إلى منزله، فردَّ الله إليه مِلكه، وأعاد الخاتم في يده.
          وقيل: المرادُ مِنَ الجسد ابنُه، وذلك أنَّهُ لمَّا وُلِد له؛ قالت الشياطين: نقتلُه، وإلَّا؛ لا نعيش معه بعده، ولمَّا علم سليمان بذلك؛ أمر السحابَ حَتَّى حملت ابنَه، وغدا في السحاب؛ خوفًا مِن مضرَّة الشيطان، فعاتبه الله لذلك، ومات الولدُ، فأُلقِيَ ميتًا على كرسيِّه، فهو الجسد الذي قال الله: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا}[ص:34]، وهذا هو الأنسب والأليق مِن غيره، ويؤيِّده ما قاله الخليل: لا يُقال: «الجسد» لغير الإنسان مِن خلق الأرض، وقال ابن إسحاق: وكان الخاتم مِن ياقوتةٍ خضراءَ، أتاه بها جبريل ◙ مِنَ الجنة، مكتوبٌ عليها: لا إله إلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رسول الله، وهو الخاتم الذي ألبسَهُ اللهُ تعالى آدمَ في الجنَّة.
          (ص) {رُخَاءً} طَيِّبَةً، {حَيْثُ أَصَابَ} حَيْثُ شَاءَ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً}[ص:36]، وفسَّر ({رُخَاءً}) بقوله: (طَيِّبَةً)، ويُروى: <طيِّبًا> بالتذكير، وفسَّر قوله: ({حَيْثُ أَصَابَ}) بقوله: (حَيْثُ شَاءَ) بلغة حِمْيَر.
          (ص) {فَامْنُنْ} أَعْطِ، {بِغَيْرِ حِسَابٍ} بِغَيْرِ حَرَجٍ.
          (ش) أَوَّلُ الآية: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[ص:39]، وفسَّر قوله: ({فَامْنُنْ}) بقوله: (أَعْطِ)، والعربَ تقول: مَنَّ عليَّ برغيفٍ؛ أي: أعطانيه، وفسَّر قوله: ({بِغَيْرِ حِسَابٍ}) بقوله: (بِغَيْرِ حَرَجٍ).
          وقال الحسن البِصْريُّ ☼: إنَّ اللهَ لم يعطِ أحدًا عطيَّةً إلَّا جعلَ فيها حسابًا، إلَّا سليمانَ، فإنَّ الله أعطاه عطاءً هنيئًا، فقال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، قال: إن أَعْطَى؛ أُجِرَ، وإن لم يعطِ، لم يكن عليه تُبْعَةٌ، وقال مقاتلٌ: هو في أمر الشياطين؛ أي: حُلَّ مَن شئت منهم، وأوثِقْ مَن شئت في وَثاقك، ولا تُبعَةَ عليك فيما تتعاطاه.