عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى:{وإلى عاد أخاهم هودًا قال يا قوم اعبدوا الله}
  
              

          ░6▒ (ص) باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ}.
          (ش) أي: هذا بابٌ في ذكر قول الله تعالى في بيان إرسال هودٍ ◙ إلى قوم عادٍ.
          و(هُودُ) هو ابن عبد الله بن رَبَاح بن خلود بن عاد بن عوص بن إرَم بن سام بن نوح ◙ ، قاله قتادة، وقال مجاهد: هود بن عابر بن شالخ بن أرْفَخْشَذ بن سام بن نوح، وقيل: هود بن عبد الله بن جاون... إلى آخره مثل الأَوَّل، وقال ابن هشام: هود اسمه عابر، ويُقَال: عيبَر بن أرفخشذ، ويقال: أنفخشذ بن سام بن نوح، ويقال: ألفخشذ بن سام بن نوح.
          وكان هودٌ أشبهَ ولدِ آدمَ بآدمَ خلا يوسفَ، وكانت عادٌ ثلاثَ عَشْرة قبيلةً، ينزلون الرملَ بالدوِّ، والدهناء، وعالج، ووبار، ويَبْرِين، وعُمَان إلى حضرموت، إلى اليمن، وكانت ديارُهم أخصبَ البلاد، فلمَّا سخط الله عليهم؛ جعلها مفاوزَ، وكان هودٌ مِن قبيلةٍ يُقَال لهم: عاد بن عوص بن إرَم بن سام بن نوح ◙ ، وهم عادٌ الأولى، وكانوا عَرَبًا يسكنون في المواضع المذكورة، وأرسل الله تعالى هودًا إليهم، وهو قوله تعالى: / {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}[هود:50] أي: وأرسلنا إلى عادٍ أخاهم هودًا.
          قال الزَّمَخْشَريُّ: و{أَخَاهُمْ} واحدًا منهم، وقال مقاتل: أخوهم في النسب، لا في الدين، وكان عادٌ الذي تسمَّت القبيلة به مَلِكَهم، وكان يعبدُ القمرَ، وطال عمره، فرأى مِن صُلبِه أربعةَ آلاف ولدٍ، وتزوَّج ألف امرأةٍ، وهو أَوَّلُ مَن ملَك الأرض بعد نوحٍ ◙ ، وعاش ألف سنةٍ ومئتَي سنةٍ، ولمَّا مات؛ انتقل المِلك إلى أكبرِ ولده؛ وهو شديدُ بن عادٍ، فأقام خمس مئة سنةٍ وثمانين سنةً، ثُمَّ مات، فانتقل المِلك إلى أخيه شَدَّاد بن عادٍ؛ وهو الذي بنى إرم ذات العماد، وكانت قبائلُ عادٍ التي تسمَّت به قد ملكوا الأرض بقوَّتهم، وافتخروا {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}[فصلت:15]، فلمَّا كثُر طغيانُهم؛ بعث الله إليهم هودًا، وهو قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ}[هود:50] يعني: تفترون على الله الكذب باتِّخاذكم الأوثانَ له شركاءَ.
          (ص) وَقَوْلِهِ: {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ}.
          (ش) (وَقَوْلِهِ) بالجرِّ عطفٌ على قوله: (قَولِ الله تعالى)، وأوَّله: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قَالَ إِنَّما العِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ. فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ. تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا تَرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ}[الأحقاف:21-25].
          قوله: ({وَاذْكُرْ}) يعني: يا مُحَمَّدُ.
          قوله: ({أَخَا عَادٍ}) أي: في النَّسب، لا في الدين.
          قوله: ({إِذْ أَنْذَرَ} أي: حين أنذر قوم عادٍ.
          قوله: ({بِالأَحْقَافِ}) جمع (حِقف) بكسر الحاء، وهو رملٌ مستطيلٌ مرتفعٌ، فيه اعوجاجٌ، مِنَ احقوقَف الشيءُ؛ إذا اعوجَّ، وعن ابن عَبَّاس: «الأحقاف» وادٍ بين عُمَان ومَهرةَ، وعن مقاتل: كانَ منازلُ عادٍ باليمن في حَضْرَمَوت، بموضعٍ يُقَال له: مَهرة، إليها تُنسَب الجمالُ المَهريَّة، وعن الضحَّاك: «الأحقاف» جبالٌ بالشام، وعن مجاهد: هي أرضُ حِسْمَى، وعن قتادة: ذُكِر لنا أنَّ عادًا كانوا حيًّا باليمن، أهلُ رمالٍ مشرفين على البحر بأرضٍ مِن بلاد اليمن، يقال لها: الشِّحْر، وعن الخليل: هي الرمال العظام، وعن الكلبيِّ: أحقاف الجبل ما نضبَ عليه الماءُ زمانَ الغرق، كان ينضب الماءُ، ويبقى أثرُه.
          قوله: ({النُّذُرُ}) جمع (نذير) بمعنى: منذر.
          قوله: ({مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ}) المعنى: مضتِ المنذِرون مِن بين يديه؛ أي: مِن قَبْلِ هود، ومِن خلفه؛ والمعنى: أنَّ الرسلَ الذين بُعِثوا قبلَه، والذين بُعِثوا في زمانه، والذين يُبعَثون بعده؛ كلُّهم مُنذِرون نحوَ إنذارِه.
          قوله: ({أَلَّا تَعْبُدُوا}) يعني: إنذارهم بقولهم: {ألَّا تعبدوا إلَّا الله} وحدَه، لا شريكَ له.
          قوله: ({إِنِّي أَخَافُ...}) إلى آخر الآية، كلامُ هود.
          قوله: ({قَالُوا}) أي: قوم هودٍ.
          قوله: ({لِتَأْفِكَنَا}) أي: لتصرِفَنا عن آلهتنا إلى دينك، وهذا لا يكون.
          قوله: ({فَأْتِنَا}) خطابٌ لهودٍ؛ أي: هاتِ لنا مِنَ العذاب الذي تُوعِدُنا به على الشرك {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فيما تقول.
          قوله: ({قَالَ}) أي: هودٌ، ({إِنَّما العِلْمُ عِنْدَ اللهِ}) بوقتِ مجيءِ العذاب، لا عندي، ({وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ}) أي: الذي أُمِرتُ بتبليغه إليكم، وليس فيه تعيينُ وقت العذاب، ولكنَّكم جاهلون، لا تعلمون أنَّ الرسل لم يُبْعَثوا إلَّا منذرينَ، لا معترضينَ، ولا سائلينَ غيرَ ما أُذِنَ لهم فيه.
          قوله: ({فَلَمَّا رَأَوْهُ}) أي: فلمَّا رأوا ما يوعَدون به ({قَالُوا هَذَا عَارِضٌ}) أي: سحابٌ عرَضَ في أفق السماء ممطرٌ لنا منه، قال هود: ({بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ}) هي ({رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ}) أي: تهلِك كلَّ شيءٍ مِن نفوس عادٍ وأموالهم بإذن ربِّها.
          قوله: ({فَأَصْبَحُوا لَا تَرَى}) قرأ عاصمٌ وحمزةُ ويعقوبُ: {يُرَى} بِضَمِّ الياء ورفعِ {مَسَاكنَهم}، قال الكسائيُّ: معناه: لا يُرى شيءٌ إلَّا مساكنُهم، وقال الفَرَّاء: لا يُرَى الناسُ؛ لأنَّهم كانوا تحت الرَّمل، وإِنَّما تُرَى مساكنُهم؛ لأنَّها قائمةٌ، وقرأ / الباقون بفتح التاء ونصب {مساكنُهم}؛ على معنى: لا تَرى يا مُحَمَّدُ إلَّا مساكنَهم.
          قوله: ({كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ}) أي: مَن أجرم مثلَ جرمهم، وهذا تحذيرٌ لمشركي العربِ.
          ومختصرُ قصَّة هُود: أنَّهُ ◙ لمَّا دعا على قومه؛ أرسل اللهُ الريحَ عليهم سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيَّامٍ حسومًا؛ أي: متتابعة، ابتدأت غَدوة الأربعاء، وسكنت في آخر الثامن، واعتزل هودٌ ومَن معه مِنَ المؤمنين في حظيرةٍ، لا يصيبهم منها إلَّا ما يَلِين الجلودَ وتلَذُّ النفوس، وعن مجاهدٍ: كان قد آمن معه أربعة آلافٍ، فذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}[هود:58]، فكانت الريح تقلع الشجرَ وتهدم البيوتَ، ومَن لم يكن منهم في بيته؛ أهلكته في البراري والجبال، وقال السُّدِّيُّ: لمَّا رأوا أنَّ الإبلَ والرجالَ تطير بين السماء والأرض في الهواء؛ تبادروا إلى البيوت، فلمَّا دخلوها؛ دخلت الريح وراءهم، فأخرجتهم منها، ثُمَّ أهلكتهم، ثُمَّ أرسل الله عليهم طيرًا سودًا، فنقلتهم إلى البحر، فألقتهم فيه.
          ثُمَّ إنَّ هودًا ◙ ، بقي بعد هلاك قومه ما شاء الله، ثُمَّ مات وعمره مئةٌ وخمسون سنةً، وحكى الخطيب عن ابن عَبَّاس: أنَّهُ عاش أربع مئةٍ وستين سنةً، وكان بينه وبين نوح ثمان مئةٍ سنة وستِّين سنةً، واختلفوا في أيِّ مكان تُوُفِّي؛ فقيل: بأرض الشِّحْر مِن بلاد حضرموت، وقبرُه ظاهرٌ هناك، ذكره ابن سعدٍ في «الطبقات»، وعن عبد الرَّحْمَن بن ساباط: بين الركن والمقام وزمزم قبرُ تسعةٍ وتسعين نبيًّا، وأنَّ قبرَ هودٍ وشعيبٍ وصالحٍ وإسماعيلَ ‰ في تلك البقعة، وقيل: بجامع دمشقَ في حائط القبلة، يزعم بعض الناس أنَّهُ قبرُ هودٍ، والله أعلم، وقال ابن الكلبيِّ: لم يكن بين نوحٍ وإبراهيمَ مِنَ الأنبياء ‰ إلَّا هودٌ وصالحٌ.
          (ص) فِيهِ عَنْ عَطَاءٍ وَسُلَيْمَانَ عَنْ عَائِشَةَ ♦، عَنِ النَّبِيِّ صلعم .
          (ش) أي: في هذا الباب رُوي عن (عَطَاء) ابن أبي رَبَاح، ووصل هذا التعليقَ البُخَاريُّ في (باب: ما جاء في قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ}[الفرقان:48]) عن مَكِّيِّ بن إبراهيم عن ابن جُرَيْج، عن عطاءٍ، عن عائشةَ قالت: كان النَّبِيُّ صلعم ... الحديث.
          قوله: (وَسُلَيْمَانَ) أي: وعن سليمان بن يسارٍ عن عائشةَ، ووصل هذا التعليقَ في (تفسير سورة الأحقاف) وقال: حَدَّثَنَا أحمد: حَدَّثَنَا بن وهْب: أخبرنا عَمْرٌو: أنَّ أبا النضرِ حدَّثه عن سليمان بن يسارٍ عن عائشة زوج النَّبِيِّ صلعم قالت: ما رأيت رسول الله صلعم ضاحكًا حَتَّى أرى منه لَهَوَاتِه... الحديث.