عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {وآتينا داود زبورًا}
  
              

          ░37▒ (ص) بابُ قَوْل اللهِ تَعَالَى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}[النساء:163].
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان قوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}[النساء:163]، وقبله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}، و({دَاوُدَ}) اسم أعجميٌّ، وعن ابن عَبَّاسٍ: هو بالعبرانيَّة القصيرُ العُمْرِ، ويقال: سُمِّيَ به؛ لأنَّه داوى جراحاتِ القلوب، وقال مقاتل: ذكره الله في القرآن في اثني عشرَ موضعًا، وهو داود بن إيشا _بكسر الهمزة، وسكون الياء آخر الحروف، وبالشين المُعْجَمة_ ابن عَوْبَدٍ _بفتح العين المُهْمَلة، وسكون الواو، وفتح الباء المُوَحَّدة، على وزن (جَعْفَر) _ ابن بَاعَز _بباءٍ مُوَحَّدةٍ وعينٍ مُهْمَلةٍ مفتوحةٍ_ ابن سلمون ابن يارب _بياءٍ آخر الحروف، وفي آخره باءٌ مُوَحَّدةٌ_ ابن رام بن حضرون _بحاءٍ مُهْمَلةٍ وضادٍ مُعْجَمةٍ_ ابن فارص _بفاءٍ، وفي آخره صادٌ مُهْمَلةٌ_ ابن يهوذَا بن يعقوب ◙ ، ومنهم مَن زاد بعد (سلمون) : بحشون ابن عميناذاب بن رام، وقيل: إرَم.
          قوله: ({زَبُورًا}) هو اسم الكتاب الذي أنزله الله عليه.
          وروى أبو صالح عن ابن عَبَّاس، قال: أنزل الله الزبورَ على داود ◙ ؛ مئةً وخمسين سورةً بالعبرانيَّة، في خمسين منها ما يلقونه مِن بختنصَّر، وفي خمسينَ ما يلقونه مِنَ الروم، وفي خمسين مواعظُ وحكمٌ، ولم يكن فيه حلالٌ ولا حرامٌ، ولا حدودٌ ولا أحكامٌ، ورُوِيَ: أنَّهُ نزل عليه في شهر رمضان.
          (ص) الزُّبُرُ: الكُتُبُ، وَاحِدُهَا: زَبُورٌ، زَبَرْتُ: كَتَبْتُ.
          (ش) (الزُّبُرُ) بِضَمِّ الزاي والباء، جمع (زَبور)، قال الكسائيُّ: يعني: المزبور؛ يعني: المكتوب، يقال: (زَبَرْتُ) الورق؛ فهو مزبورٌ؛ أي: كتبته فهو مكتوبٌ، وقرأ حمزة: {زُبورًا}، بِضَمِّ الزاي، وغيره مِنَ القراء بفتحها.
          (ص) {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ}[سبأ:10].
          (ش) ({فَضَلًا}) : أي: نبوَّةً وكتابًا؛ هو الزَّبور، وصوتًا بديعًا، وقوَّةً وقدرةً، وتسخيرَ الجبال والطير.
          قوله: ({يَا جِبَالُ}) بدلٌ مِن قوله: ({فَضْلًا}) بتقدير قولنا: يا جبالُ، أو هو بدلٌ مِن قوله: ({آتَيْنَا}) ؛ بتقدير: قلنا يا جبالُ.
          (ص) قال مُجَاهِدٌ: سَبِّحِي مَعَهُ.
          (ش) هو تفسير قوله: {أَوِّبِي مَعَهُ}[سبأ:10] يعني: يا جبالُ (سَبِّحِي) مع داود، و({أوِّبِي}) أمرٌ مِن التأويب؛ أي: رجِّعي معه التسبيح، أو ارجعي معه في التسبيح كلَّما رجَّع فيه؛ لأنَّه إذا رجَّعه؛ فقد رَجَع، وقيل: سبِّحي معه إذا سبَّح، وقيل: هي بلسان الحبشة، وقيل: نوحي معه، والطيرُ تُساعِدك على ذلك، وكان إذا نادى بالنياحة؛ أجابته الجبال بِصَداها، وعَكَفتْ عليه الطيرُ مِن فوقِه، فصدى الجبالِ الذي يسمعُه الناسُ مِن ذلك اليوم.
          (ص) {وَالطَّيْرَ}.
          (ش) هو منصوبٌ بالعطف على محلِّ الجبال، وقيل: منصوبٌ على أنَّهُ مفعول معه، وقيل: منصوب بالعطف على {فَضْلًا} يعني: وسخَّرنا له {الطَّيرَ}.
          (ص) {وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ}[سبأ:10].
          (ش) أي: ألنَّا لداودَ الحديدَ، فصارَ في يده مثلَ الشمع، وكان سأل الله أن يسبِّبَ له سببًا يستغني به عن بيت المال، فيتقوَّت منه، ويطعم عيالَه، فألان الله له الحديدَ.
          (ص) {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ}[سبأ:11] الدُّرُوعَ.
          (ش) كلمة ({أَنْ}) هذه مفسِّرة بمنزلة (أي) ؛ كما في قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الفُلْكَ}[المؤمنون:27].
          و({سَابِغَاتٍ}) منصوبٌ بقوله: ({اعْمَلْ})، وفسَّره بقوله: (الدُّرُوعَ)، وكذا فسَّر أبو عُبَيدةَ (السابغاتِ) بـ(الدُّروع)، وقال أهلُ التفسير: أي: كوامِلُ واسعاتٌ، وقُرِئَ: {صابِغاتٍ} بالصاد.
          (ص) {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}[سبأ:11] المَسَامِيرِ وَالحَلَقِ، وَلَا تُدِقَّ المِسْمَارَ؛ فَيَتَسَلْسَلَ، وَلَا تُعَظِّمْ؛ فَيَفْصِمَ.
          (ش) فسَّر ({السَّرْدِ}) بقوله: (المَسَامِيرِ وَالحَلَقِ)، قال المفسِّرون معنى قوله: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي: لا تجعل المساميرَ دقاقًا، ولا غلاظًا، وأشار البُخَاريُّ إلى هذا بقوله: (وَلَا تُدِقَّ) / بالدال المُهْمَلة، مِنَ التدقيق، ويدلُّ عليه ما روى إبراهيمُ الحربيُّ في «غريب الحديث» مِن طريق مجاهد في قوله: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}: لا تُدِقَّ المساميرَ؛ فيسلس، ولا تغلظها؛ فيفصمها، وقيل: ولا تُرِقَّ، بالراء، مِنَ الرقَّة، وهو أيضًا يؤدِّي ذاك المعنى.
          قوله: (فَيَتَسَلْسَلَ) ويُروى: <فيتسلَّل>، ويُروى: <فيسْلَس>، والكلُّ يرجع إلى معنًى واحدٍ، يقال: شيءٌ سلِس: سهلٌ، ورجل سلِس؛ أي: ليِّن منقادٌ بين السَّلس والسلاسة.
          قوله: (وَلَا تُعَظِّمْ) أي: المسمار، (فَيَفْصِمَ) مِنَ الفصم؛ وهو القطع.
          (ص) {أفْرِغْ} أنْزِلْ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}[البقرة:250]، وفسَّر ({أَفْرِغْ}) بقوله: (أَنْزِلْ) مِنَ الإنزال، قال المفسِّرون: معنى قوله: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} أي: أنزِل علينا صَبْرًا مِن عندك، وهذا في قصَّة طالوت، وفيها قضيَّة داود ◙ ، فكأنَّه ذُكِرَ ههنا؛ لأنَّ قضيَّتّهما واحدةٌ، وقال بعضهم: {أَفْرِغْ} أَنْزِلْ: لم أعرفِ المرادَ مِن هذه الكلمة هنا.
          قُلْت: ليس هذا الموضعُ مِنَ المواضع التي يُدَّعى فيها العجزُ، والوجهُ فيه مِنَ المعنى والمناسبةِ ما ذكرناه.
          (ص) {بَسْطَةً} زِيَادَةً وَفَضْلًا.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالجِسْمِ}[البقرة:247]، وهذا أيضًا في قصَّة طالوت، والوجهُ فيه ما ذكرناه، وقد فسَّر البُخَاريُّ ({بَسْطَةً}) بقوله: (زِيَادَةً وَفَضْلًا) أي: زيادةً في القوَّة، وفضلًا في المال وفي علم الحروب، وهذا والذي قبله لم يقعا إلَّا في رواية الكُشْميهَنيِّ وحدَه.
          (ص) {وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[سبأ:11]
          (ش) فأجازيكم عليه أحسنَ جزاءٍ وأتمَّه.