عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله ╡ : {ونبئهم عن ضيف إبراهيم}
  
              

          ░11▒ (ص) باب قَوْلُ الله ╡ : {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ. قَالُوا لَا تَوْجَلْ} لَا تَخَفْ[الحجر:51-53].
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان قوله تعالى: ({وَنَبِّئْهُمْ...}) الآية، وأشار به إلى قصَّةٍ مِن قصص إبراهيم ◙ ؛ وهي: دخول الملائكة الذين أُرْسِلوا إلى هلاك قوم لوطٍ _ ◙ _ عليه، حَتَّى حصل له الوَجَلُ منهم؛ وذلك لامتناعهم مِنَ الأكل، وقيل: لأنَّهم دخلوا بغير وقتٍ، وبغير إذنٍ، وتمام الآية: {قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ}.
          قوله: ({وَنَبِّئْهُمْ}) أي: نبِّئْ عبادي {عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} وقصَّته: أنَّ الله تعالى أرسل لوطًا إلى قومه، ينهاهم عمَّا يرتكبون مِنَ المعاصي والفواحش، فلم ينتهوا، بلِ ازدادوا عتوًّا وفسادًا، وقالوا: ائتنا بعذابِ الله إن كنتَ مِنَ الصادقين، فسأل لوطٌ ربَّه أن ينصرَه عليهم، فأجاب الله دعاءه، وبعث أربعةً مِنَ الملائكة _جبريل، وميكائيل، وإسرافيل ودردائيل، وقيل: رفائيل_ لإهلاكهم وبِشارةِ إبراهيم بالولد، فأقبلوا مُشاةً في صورة رجالٍ مُرْدٍ حِسَانٍ، حَتَّى نزلوا على إبراهيمَ ◙ ، وكان الضيفُ قد حُبِسَ عنه خمسَ عشرةَ ليلةً، حَتَّى شقَّ ذلك عليه، وكان لا يأكلُ إلَّا مع الضيف مهما أمكنَه، فلمَّا رآهم؛ سُرَّ بهم؛ لأنَّه رأى ضيفًا لم يُضيِّفْ مثلَهم حُسنًا وجمالًا، فقال: لا يخدمُ هؤلاء إلَّا أنا، فخرج إلى أهله، فجاء بعِجْلٍ حَنيذٍ _وهو / المشويُّ بالحجارة_ فقرَّبه إليهم، فأمسكوا أيديَهم: ({قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ}) أي: خائفون {قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} أي: يكون عليمًا بالدِّين.
          وفسَّر البُخَاريُّ قوله: ({لَا تَوْجَلْ}) بقوله: (لَا تَخَفْ) مِن وَجَل يَيْجَل ويَوجَل، فهو وجِلٌ؛ أي: خائفٌ فزِعٌ، وقرأ الحسن: {لا تُوجَل} بِضَمِّ التاء، مِن أوجَله يوجِله؛ إذا أخافه، وقُرِئَ: {لا تاجَل} و{لا تُوَاجَل} مِن وَاجَله؛ بمعنى: أوجله.
          (ص) قوله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[البقرة:260].
          (ش) وفي بعض النُّسَخ: <{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[البقرة:260]> وهذه رواية أبي ذرٍّ، ووقع في رواية كريمةَ: <{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}> فقط، وسقط كلُّ ذلك للنَّسَفِيِّ، فحديثُ أبي هُرَيْرَة عنده تكملةُ البابِ الذي قبله، وأَمَّا الكَرْمَانِيُّ؛ فَإِنَّهُ كذلك لم يذكرْ منه شيئًا، لا لفظَ (الباب)، ولا الترجمةَ.
          قوله: ({وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ}) يعني: اذكر يا مُحَمَّدُ حين {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى...} الآية، وذكر المفسِّرون لسؤال إبراهيم ◙ أسبابًا:
          منها: أنَّهُ لمَّا قال لنُمْرود: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}[البقرة:258]؛ أحبَّ أن يترقَّى مِن علم اليقين إلى عين اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدةً، فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى}؛ كما أنَّ الإنسانَ يعلمُ الشيءَ ويتيقَّنُه، ولكن يحبُّ أن يراه عِيانًا.
          ومنها: أنَّهُ [لمَّا] بُشِّرَ بالخُلَّة؛ سأل ذلك؛ ليتيقَّن بالإجابة لصحِّة ما بُشِّر به، قاله ابن مسعود.
          ومنها: أنَّهُ إِنَّما سأل ليشاهد كيفيَّة جمع أجزاء الموتى بعد تفريقِها، واتِّصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقِها، فأراد أن يجمع بين علم اليقين وعَينِ اليقين وحقِّ اليقين.
          ومنها: ما رُويَ عن قتادة أنَّهُ قال: ذُكِرَ لنا أنَّ إبراهيمَ أتى على دابَّةٍ توزَّعتها الدوابُّ والسِّباع، فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى} ليشاهد ذلك؛ لأنَّ النفوسَ متشوِّفةٌ إلى المعاينة، يصدِّقه الحديثُ الصحيحُ: «ليس الخبَرُ كالمعايَنة».
          ومنها: ما قاله ابن دُرَيد: مرَّ إبراهيم بحوتٍ نصفه في البر ونصفه في البحر؛ الذي في البحر يأكله دوابُّ البحر، والذي في البرِّ يأكله دوابُّ البرِّ، فقال إبليسُ الخبيث: يا إبراهيم؛ متى يجمعُ الله هذا مِن بطون هؤلاء؟ فقال: يا ربِّ؛ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى؟ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي؛ ليسكن ويهتدي باليقين الذي يستيقِنُه.
          وقال ابن الحَصَّار في «شرح العقيدة»: إِنَّما سأل اللهَ أن يُحييَ الموتى على يديه؛ يدلُّ على ذلك قوله: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}[البقرة:260]، فأجابه على نَحْوِ ما سأل، وعَلِمَ أنَّ أحدًا لا يقترحُ على الله مثلَ هذا فيجيبه بعينِ مطلوبِه إلَّا عن رضًا واصطفاءٍ؛ بقوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} بأنَّا اصطفيناك، واتَّخذناك خليلًا؟ {قَالَ بَلَى}.
          قوله: ({كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى}) لفظ {كيف} اسمٌ؛ لدخول الجارِّ عليه بلا تأويل؛ نحو قولهم: (على كيفَ تبيع الأحمرين؟) ويُستعمَلُ على وجهين؛ أحدهما: أن يكون شرطًا؛ نحو: (كيف تصنعْ؛ أصنعْ)، والآخر وهو الغالب: أن يكون استفهامًا، وهنا كذلك، وقال ابن عطيَّة: السؤال بـ«كيف» إِنَّما هو سؤالٌ عن حالة شيءٍ موجودٍ متقرِّرِ الوجود عند السائل، فـ(كيف) هنا استفهامٌ عن هيئة الإحياء، وهو متقرِّرٌ.
          قوله: ({قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ}) يعني: بإحياءِ الموتى، وإِنَّما قال: {أولَمْ تؤمن} معَ عِلْمِه بأنَّه أثبتُ الناس إيمانًا؛ ليُجيبَ بما أجاب به؛ لِما فيه مِنَ الفائدة الجليلة للسامعين.
          قوله: ({قَالَ بَلَى}) أي: بلى؛ آمنتُ، و{بلى} إيجابٌ لِمَا بعد النفي.
          قوله: ({وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}) أي: ليزيدَ سكونًا وطُمأنينة بمضامَّة علمِ الضرورةِ علمَ الاستدلال؛ لأنَّ ظاهرَ الأدلَّة أسكنُ للقلوب، وأزيدُ للبصيرة واليقين، وعنِ ابنِ عَبَّاس والحسن وآخَرينَ: ليطمئنَّ قلبي للمشاهدة، كأنَّ نفسَه طالبتْهُ برؤية ذلك، فإذا رآه؛ اطمأنَّ، وقد يعلمُ المرءُ الشيءَ مِن جهةٍ، ثُمَّ يطلبُ أن يعلَمه مِن غيرها، وقيل: المعنى: {ليطمئنَّ قلبي}؛ لأنِّي إذا سألتُك؛ أجبْتَني، وقيل: كان سؤالُه على طريق الأدب، يعني: أقدِرْني على إحياء الموتى؛ ليطمئنَّ قلبي عن هذه الأُمنيَّة، فأجاب اللهُ إلى سؤاله، وقال: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} وهي: الغرنوق، والطاوُوس، والدِّيك، والحَمَامة؛ كذا روي عنِ ابنِ عَبَّاس، وعنه: أنَّهُ أخذ وَزًّا، ورَألًا _وهو فَرْخ النعامة_ وديكًا وطاوُوسًا، وقال مجاهد وعِكرمة: كانت / حمامةً، وديكًا، وطاووسًا، وغرابًا، وروى مجاهدٌ عنِ ابنِ عَبَّاس: أنَّ الطيورَ كانت طاووسًا، ونَسْرًا، وغُرابًا، وحَمَامًا.
          وفيه: إشارةٌ إلى أحوال الدنيا؛ فالطاوُوس مِنَ الزينة، والنَّسْر مِنَ امتداد الأمَل، والغُراب مِنَ الغُربة، والحَمَام مِنَ النِّياحة، وقيل موضعَ (النَّسر) البطُّ، وموضعَ (الحمام) الديكُ، والحكمة في اختيار هذه الأربعة: هي أنَّ الطاوُوسَ خان آدمَ ◙ في الجنَّة، والبطَّ خان يونسَ ◙ حين قطَع يَقطينَه، والغُرابَ خان نوحًا ◙ حين أرسله؛ ليكشف حالَ الماءِ الذي عمَّ الأرض، فاشتغل بالجيفة، والديكَ خان إلياسَ فسلب ثوبَه، فلا جَرَم أنَّ الله غيَّرَ صوتَ الطاوُوس بدعاء آدمَ ◙ ، وسَلَب السكونَ عنِ البطِّ بدعاء يونُس ◙ ، وجعل رزقَ الغُراب الجيفةَ بدعاء نوحٍ ◙ ، وألقى العداوةَ بين الدِّيَكَةِ بدعاء إلياس ◙ .
          ولمَّا أخذ إبراهيم هذه الطيور الأربعة؛ قال الله تعالى له: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} أي: قطِّعْهنَّ _كذا رواه مجاهدٌ عن ابن عَبَّاسٍ_ ثُمَّ خلِّطْهُنَّ، ثُمَّ اجعلها أربعةَ أجزاء، {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا}، ففعل إبراهيمُ مثلَ ما أُمِرَ به، ثُمَّ أمره الله أن يدعوَهنَّ، فدعاهنَّ، فجَعَل ينظُرُ إلى الرِّيش يطيرُ إلى الرِّيش، والدم إلى الدم، واللَّحم إلى اللَّحم، والأجْزَاءُ مِن كلِّ طيرٍ يتَّصل بعضُها إلى بعضٍ، حَتَّى قام كلُّ طيرٍ على حِدَته، وأتينَه يمشينَ سَعْيًا؛ ليكون أبلغَ في الرُّؤية التي سألها، قال ابن عَبَّاس: وكان إبراهيمُ قد أخذ رؤوسهنَّ بيدِه، وجعل كلَّ طيرٍ يجيءُ ليأخذ رأسَه مِن يد إبراهيم، فإذا قدَّم إبراهيمُ غيرَ رأسِه؛ يأباه، وإذا قدَّم رأسَه؛ يُركَّبُ مع بقية جُثَّته بحول الله تعالى وقوَّته؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ} لا يغلبُه شيءٌ، ولا يمتنعُ منه شيءٌ، {حَكِيمٌ} في أقوالِه وأفعالِه.
          فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ خصَّ الطيرَ مِن بينِ سائر الحيَوانات؟
          قُلْت: لأنَّ للطير ما لسائرِ الحيواناتِ، وله زيادةُ الطيَران، ولأنَّ الطيرَ هوائيٌّ، ومائيٌّ، وأرضيٌّ، فكانتِ الأُعجوبةُ في إحيائه أكثرَ؛ ولهذا قال عيسى ◙ : {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ}[آل عمران:49]، فاختار الخُفَّاش؛ لاختصاصه بأشياء ليست في الطُّيور: الحيض، والحبَل، والطَّيَران في الظلمة، وعدم الرؤية بالنهار، وله أسنانٌ.
          فَإِنْ قُلْتَ: لم خصَّ أربعةً مِنَ الطير؟
          قُلْت: لأجل الإسطقسات الأربع التي بها قَوامُ العالَم، والجبالُ كانت أربعةً مِن جبال الشام، وقيل: جبلُ لُبْنان، وسينين، وطُور سينين، وطُور زَيتا.