عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {ذكر رحمة ربك عبده زكريا}
  
              

          ░43▒ (ص) باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا. قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} إِلَى قَوْلِهِ: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان قول الله تعالى: {كهيعص. ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} إلى آخره [مريم:1-2].
          قوله: (إِلَى قَوْلِهِ) أي: اقرأ إلى قوله: ({لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}[مريم:7]) ؛ وهو قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا. وَإِنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا. يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}[مريم:4-7]
          قوله: ({ذِكْرُ}) مرفوعٌ بأنَّه خبرٌ لقوله: ({كهيعص})، وقيل: خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ؛ أي: هذا القولُ الذي نتلو عليك ذِكْرُ رَبِّكَ، وقيل: مرفوعٌ بالابتداء، والخبرُ مقدَّمٌ؛ تقديره: فيما أُوحِيَ إليك ذكرُ رحمة ربِّك، و{ذِكْرُ} مصدرٌ مضافٌ إلى (الرحمة) وهي فاعلُه، و{عَبْدَهُ} مفعولُها.
          قوله: ({خَفِيًّا}) أي: خافيًا، يخفى ذلك في نفسه، لم يطَّلع عليه إلَّا اللهُ.
          قوله: ({وَهَنَ}) يقال: وهَن يهَن وهْنًا؛ فهو واهنٌ، وقال الفَرَّاء: وهَِن العظم، بالفتح والكسر في الهاء، أراد أنَّ قوَّةَ عظامه ذهبت؛ لكبر سنِّه، وإِنَّما خصَّ العظم؛ لأنَّه الأصل في التركيب، وقال قتادة: شكا ذهابَ أضراسه.
          قوله: ({وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}) أي: مِن حيث الشيب، شبَّه الشيبَ بشواظ النار في بياضه وإنارته، وانتشاره في الشَّعَر، وفُشُوِّه فيه، وأخذِه كلَّ مأخذٍ باشتعال النار، ثُمَّ أخرجه مُخرَجَ الاستعارة، ثُمَّ أسند (الاشتعال) إلى مكان الشَّعَر ومنبته؛ وهو (الرأس)، وأخرج (الشيبَ) مميِّزًا، ولم يُضِفِ (الرأس) ؛ يعني: لم يقل: رأسي؛ اكتفاءً بعلم المخاطَب أنَّهُ رأس زكريَّا ◙ ، فمِن ثَمَّ فصُحَت هذه الجملةُ، وشُهِدَ لها بالبلاغة.
          قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ} أي: بدعائي إيَّاك {شَقِيًّا} أي: خائبًا.
          قوله: {المَوَالِي}، وهم الذين يلونه في النسب؛ وهم بنو العمِّ والعصبةُ، وكان عمُّه وعصبته شرارَ بني إسرائيل، فخافهم على الدين أن يغيِّروه ويبدِّلوه، وألَّا تحسنَ الخلافةُ على أمَّته، فطلب عقِبًا مِن صُلبه صالحًا يُقتدى به في إحياء الدِّين.
          قوله: {عَاقِرًا} أي: عقيمًا لا تلد.
          قوله: {وَلِيًّا} أي: ولدًا صالحًا يحمل أمر الدِّين بعدي.
          قوله: {يَرِثُنِي} أي: يرث النُّبوَّةَ، وقيل: العلمَ، وقيل: يرثهما.
          قوله: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قال ابن عَبَّاس: يرثُني مالي، ويرثُ مِن آل يعقوب النبوَّةَ، وعنه: يرثُني العلم، ويرثُ مِن آل يعقوب المِلك، فأجابه الله إلى وِراثة العلم دون المِلك.
          قوله: ({لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلِ سَمِيًّا}) يعني: لم يُسَمَّ أحدٌ قبله بـ(يحيى).
          فَإِنْ قُلْتَ: ما وجه المِدحة باسمٍ لم يُسَمَّ أحدٌ قبلَه، ونرى كثيرًا مِنَ الأسماء لم يُسْبَق إليها؟
          قُلْت: لأنَّ اللهَ تعالى تولَّى تسميته، ولم يَكِلْ ذلك إلى أبوَيه، فسمَّاه باسمٍ لم يُسْبَقْ إليه.
          واعلم أنَّ في (زكريَّا) أربعَ لغاتٍ؛ المدُّ، والقصر، وحذف الألف مع إبقاء الياء مشدَّدةً، وتخفيف الياء، فإن / مددْتَ أو قصرْتَ؛ لم تصرِفْ، وإن حذفتَ الألف مع إبقاء الياء مشدَّدةً؛ صرفتَ.
          وزكريَّا بن آذَن بن مسلم بن صدوق بن نَخشان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صُدَيقَة بن ناحور بن شلوم بن يهفاشاط بن إِشا بن أُنيا بن رحُبْعُم بن سليمان بن داود ♂ ، كذا ذكره الثعلبيُّ، وقال ابن عساكر في «تاريخه»: زكريَّا بن بَرْخِيَا، ويقال: زكريَّا بن دان، ويقال: ابن آدَن... إلى آخره، وعن أبي هُرَيْرَة قال: قال رسول الله صلعم : «كان زكريَّا نجَّارًا»، انفرد بإخراجه مسلمٌ.
          وابنه (يحيى) مِنَ الحياة، وقال الزَّمَخْشَريُّ: إن كان يحيى أعجميًّا وهو الظاهرُ؛ يُمْنَع صرفُه؛ للتعريف والعُجْمة؛ كـ«موسى» و«عيسى»، وإن كان عربيًّا؛ فللتعريف ووزنِ الفِعل؛ كـ«يَعْمَر».
          واختلفوا فيه؛ لِمَ سُمِّيَ يحيى؟ فقال ابن عَبَّاس: لأنَّ اللهَ أحيا به عقرَ أمِّه، وقال قتادة: لأنَّ اللهَ تعالى أحيا قلبه بالإيمان والنبوَّةِ، وقيل: أحياه بالطاعة، حَتَّى لم يعصِ أصلًا، ولم يهتمَّ بمعصيةٍ، واسم أمِّ يحيى إِشْياع بنت فاقوذا، أخت حنَّة أمِّ مريمَ ♀، وقال ابن إسحاق: كان زكريَّا وابنه يحيى ♂ آخرَ مَن بُعِثَ في بني إسرائيل مِن أنبيائهم.
          (ص) قال ابنُ عَبَّاس: مِثْلًا.
          (ش) أي: قال عبد الله بن عَبَّاسٍ: معنى {سَمِيًّا}: (مِثْلًا) في قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}[مريم:65].
          (ص) يُقَالُ: {رَضِيًّا} مَرْضِيًّا.
          (ش) أشار به إلى تفسير ({رَضِيًّا}) في قوله: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}[مريم:6] بأنَّه بمعنى: (مَرْضِيًّا)، وقال الطَّبَريُّ: مرضيًّا، ترضاه أنت وعبادك.
          (ص) {عِتِيًّا} عَصِيًّا، عَتَا يَعْتُو.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِيًّا}[مريم:8]، وفسَّره بقوله: (عَصِيًّا)، وذكره بالصاد المُهْمَلة، والصواب بالسين المُهْمَلة، وروى الطَّبَريُّ بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عَبَّاسٍ قال: ما أدري؛ أكان رسول الله صلعم يقرأ {عِتيًّا} أو {عُسيًّا}؟ يقال: قرأ مجاهد: {عُسيًّا} بالسين، وقال الجَوْهَريُّ: عتا الشيخ يعتو عُِتيًّا؛ بِضَمِّ العين وكسرها: كبُر وولَّى، وقال الأصمعيُّ: عسا الشيخ يعسو عُسيًّا؛ ولَّى وكبُر؛ مثل: عتا، وقال قتادة: «العتو» نحول العظم، يقال: مَلِك عاتٍ؛ إذا كان قاسيَ القلب غير ليِّنٍ، وعن أبي عبيدة: كلُّ مبالغٍ في شرٍّ، أو كفر؛ فقد عتا وعسا، ويقال: عتا العود وعسا؛ مِن أجل الكبَرِ والطعن في السنِّ العالية، وقرأ [حفص عن عاصم و] حمزة والكسائيُّ: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِيًّا}[مريم:8] بكسر العين، والباقون بضمِّها.
          قوله: (عَتَا يَعْتُو) أشار به إلى أنَّهُ مِن باب (فعَل يفعُل) ؛ مثل: غزا يغزو، مِن معتلِّ اللَّام الواويِّ.
          (ص) {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}، يُقَالُ: صَحِيحًا.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِيًّا. قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا. قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}[مريم:8-10].
          قوله: ({قَالَ رَبِّ}) أي: قال زكريَّا: [({أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ}) ؟ أي: مِن أين يكون لي غلامٌ؟ أو كيف يكون لي غلامٌ والحالُ أنَّ امرأتي عاقرٌ، وأنا بلغت مِنَ الكبر عِتيًّا؟
          قوله: ({قَالَ كَذَلِكَ}) أي: قال جبريل ◙ : إنَّ الأمرَ كذلك؛ كما قيل لك مِن هَبته الولد على الكِبَر.
          قوله: ({هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}) أي: خلقُه عليَّ هيِّن؛ بأن أردَّ عليك قوَّتك، حَتَّى تقوى للجِماع، وأفتقَ رحمَ امرأتك.
          قوله: ({وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلِ}) أي: أوجدتك مِن قبل يحيى، ({وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}) ؛ لأنَّ المعدومَ ليس بشيءٍ، أو شيئًا لا يُعتَدُّ به.
          قوله: ({قَالَ: رَبِّ}) أي: قال زكريَّا]
: يا ربِّ؛ ({اجْعَلْ لِي آيَةً}) أي: علامةً على حمل امرأتي.
          قوله: ({قَالَ آيَتُكَ}) أي: قال الله ╡ : علامتك ({أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}) منصوبٌ على الحال؛ أي: وأنت صحيحٌ، سليمُ الجوارح، سويُّ الخَلْقِ، ما بك خرسٌ ولا بكَمٌ، دلَّ ذكرُ (اللَّيالي) هنا و(الأيَّام) في (آل عِمْرَان) على أنَّ المنعَ مِنَ الكلام استمرَّ به ثلاثة أيَّامٍ ولياليهنَّ.
          (ص) {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}[مريم:11]، {فَأَوْحَى} فَأَشَارَ.
          (ش) أي: فخرج زكريَّا، كان الناس مِن وراء المحراب ينتظرونه أن يفتحَ لهم الباب، فيدخلون ويصلُّون؛ / إذ خرج إليهم زكريَّا متغيِّرَ اللَّون، فأنكروه، فقالوا له: يا زكريا؛ مالَكَ؟ فأوحى إليهم؛ أي: أشار إليهم بيده ورأسه، قاله مجاهد، وعن ابن عَبَّاسٍ: فكتب إليهم في كتابٍ، وقيل: على الأرض.
          قوله: ({أَنْ سَبِّحُوا})، وكلمة {أن} هي المفسِّرة؛ أي: صلُّوا لله ({بُكْرَةً وَعَشِيًّا})، وهذا في صبيحة اللَّيلةِ التي حملتِ امرأتُه، فلمَّا حملتِ امرأته؛ أمرهم بالصلاة إشارةً.
          (ص) {يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}.
          (ش) أي: اقرأ الآيةَ إلى قوله: ({وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}) ؛ وهو {وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا. وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا. وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}[مريم:12-15].
          قوله: ({يَا يَحْيَى}) التقدير: فوهبنا له يحيى، وقلنا له: ({يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ}) أي: التوراة، وكان مأمورًا بالتمسُّك بها.
          قوله: ({الحُكْمَ}) أي: الحكمة؛ وهي الفهم للتوراة، والفقه في الدين.
          ({صَبِيًّا}) أي: حال كونه صَبِيًّا، وعن ابن عَبَّاسٍ عن النَّبِيِّ صلعم : «سبع سنين»، وعن قتادة ومقاتل: (ثلاث سنين)، وكان ذلك معجزة له.
          قوله: ({وَحَنَانًا}) قال الزَّجَّاج: وآتيناه حنانًا، وقيل: وجعلناه حنانًا لأهل زمانه؛ أي: رحمةً لأبويه وغيرهما، وتعطُّفًا وشفقةً.
          قوله: ({وَزَكَاةً}) أي: زيادةً في الخير على ما وُصِفَ، وقيل: طهارةً مِنَ الذنوب، وقيل: عملًا صالحًا.
          قوله: ({تَقِيًّا}) يعني: مسلمًا مخلصًا مطيعًا.
          قوله: ({وَبَرًّا}) أي: وبارًّا ({بِوَالِدَيهِ}) لطيفًا بهما، محسنًا إليهما، ({وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا}) متكبِّرًا.
          قوله: ({عَصِيًّا}) أي: عاصيًا لربِّه.
          قوله: ({وَسَلَامٌ عَلَيْهِ}) أي: سلامٌ مِنَ الله عليه في هذه الأيَّام، وإِنَّما خصَّ التسليمَ والسلامةَ بهذه الأحوال؛ لأنَّها أصعبُ الأوقات وأوحشُها.
          (ص) {حَفِيًّا} لَطِيفًا.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}[مريم:47]، وفسَّر ({حفيًا}) بقوله: (لَطِيفًا)، وقال أبو عبيدة: أي: محتفيًا.
          (ص) {عاقِرًا} الذَّكَرُ والأنْثَى سَوَاءٌ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا}[مريم:5]، وقال: (الذَّكَرُ والأنْثَى سَوَاءٌ) يعني: يقال للرجل الذي لا يلِدُ: (عاقر)، وللمرأة التي لا تلِدُ: (عاقر).