عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {وإن يونس لمن المرسلين}
  
              

          ░35▒ (ص) باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ}[الصافات:139] إِلَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ مُلِيمٌ}[الصافات:142].
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان قوله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الفُلْكِ المَشْحُونِ. فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ. فَالتَقَمَهُ الحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}، و({يُونُسَ}) ابْنُ مَتَّى، بفتح الميم وتشديد التاء المُثَنَّاة مِن فوق، مقصورُ، وقيل: متَّى أمُّه، ولم يشتهر نبيٌّ بأمِّه غيرَ يونس والمسيح ♂ ، وروى عبد الرزاق: إنَّ متَّى اسمُ أمِّه، ولكنَّ الأصحَّ أنَّهُ اسمُ أبيه، وكان رجلًا صالحًا مِن أهل بيت النبوَّة، ولم يكن له ولدٌ ذكرٌ، فقام إلى العين التي اغتسل فيها أيُّوبُ ◙ ، فاغتسل هو وزوجتُه منها، وصلَّيا، ودعوَا الله تعالى أن يرزقهما رجلًا مباركًا، / فيبعثه اللهُ في بني إسرائيل، فاستجاب الله دعاءَهما، ورزقهما يونسَ، وتُوُفِّيَ متَّى ويونسُ في بطن أمِّه، وله أربعة أشهرٍ، وقد قيل: إنَّهُ مِن بني إسرائيل، وإنه مِن سِبط بنيامين، وكان مِن أهل قريةٍ مِن قُرى الموصل، يقال لها نِينوى، وكان قومه يعبدون الأصنامَ، فبعثه اللهُ إليهم.
          (ص) قَالَ مُجَاهِدٌ: مُذْنِبٌ.
          (ش) هو تفسير قوله: {مُلِيمٌ}، هكذا رواه الطَّبَريُّ مِن طريق مجاهدٍ، مِن ألامَ الرجلُ؛ إذا أتى بما يُلَامُ عليه، وفي «تفسير النَّسَفِيِّ»: {وَهُوَ مُلِيمٌ} داخلٌ في الملامة، يقال: ربَّ لائمٍ مُليمٍ؛ أي: يلوم غيرَه، وهو أحقُّ منه باللوم، وعن الطَّبَريِّ: (المَلِيم) هو المكتسب اللَّومَ.
          (ص) {المَشْحُونُ} المُوَقَرُ.
          (ش) أشار به إلى تفسير قولهِ تعالى: {إِلَى الفُلْكِ المَشْحُونِ}[الصافات:140]، هكذا رواه ابن أبي حاتم مِن طريق ابن أبي نَجِيح عن مجاهد.
          وَ(المُوقَرُ) بِضَمِّ الميم وفتح القاف: المملوء المشحون، وقيل: معناه: المجهَّزُ.
          (ص) {فَلَوْلَا أنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ} الآيَةَ[الصافات:143].
          (ش) يعني: أتِمَّ (الآيَة)، أو اقرأ الآية، وهو قوله: {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الصافات:144] يعني: [لولا أنَّ يونسَ ({كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ}) أي: المنزَّهينَ، الذاكرينَ اللهَ تعالى قبل ذلك في الرخاء بالتسبيح والتقديس؛ {لَلَبِثَ} في بطن الحوت {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، يعني:] إلى يوم القيامة، وفي «تفسير النَّسَفِيِّ»: الظاهر لبثه حيًّا إلى يوم القيامة، وعن قتادة: لكان بطنُ الحوت قبرًا له إلى يوم القيامة، وقال الكلبيُّ: كان لبثُه في بطن الحوت أربعين يومًا، وقال الضحَّاك: عشرين يومًا، وقال عطاء: سبعة أيَّام، وقيل: ثلاثة أيَّام، وعن الحسن البِصْريِّ: لم يلبَثْ إلَّا قليلًا، ثُمَّ أُخْرِجَ مِن بطنه بعيد الوقت الذي التُقِمَ فيه.
          (ص) {فَنَبَذْنَاهُ بِالعَرَاءِ} بِوَجْهِ الأرْضِ، {وَهُوَ سَقِيمٌ}[الصافات:145]
          (ش) أي: فطرحناه، وفسَّر (العَرَاءَ) (بِوَجْهِ الأَرْضِ)، وهكذا فسَّره الكلبيُّ، وقال مقاتلٌ: هو ظهر الأرض، وقال مقاتل بن سليمان: هو البَراز مِنَ الأرض، وقال الأخفش: هو الفضاء، وقال السُّدِّيُّ: هو الساحل، ويقال: «العراء» الأرض الخالية مِنَ الشجر والنبات، ومنه قيل للمتجرِّد: عريان.
          قوله: ({سَقِيمٌ}) ؛ أي: عليلٌ مِمَّا حلَّ به.
          (ص) {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ}[الصافات:146]، من غَيْرِ ذَاتِ أصْلِ، الدُّبَّاءِ ونَحْوِهِ.
          (ش) قوله: ({عَلَيْهِ}) أي: له، وقيل: عنده. و(اليَقْطِين) القرع.
          وعن ابن عَبَّاس والحسَن ومُقاتِل: كلُّ نبتٍ يمتدُّ وينبسِطُ على وجه الأرض، وليس له ساقٌ؛ نحو: القِثَّاء، والبِطِّيخ، والقَرْع، والحَنْظَل، وقال سعيد بن جُبَير: هو كلُّ نبتٍ ينبت، ثُمَّ يموتُ في عامه، وقيل: هو (تَفْعِيل) مِن قَطَنَ بالمكان؛ إذا أقام به إقامةَ زائلٍ، لا إقامةَ ثابتٍ، وقيل: هو (الدُّبَّاء)، وفائدة الدُّبَّاء: أنَّ الذُّبَّانَ لا يجتمع عنده، وقيل لرسول الله صلعم : إنَّك لتحبُّ القَرْع؟ قال: «أجل؛ هي شجرة أخي يونس»، وقيل: هي التين، وقيل: شجرة المَوز، يُغَطَّى بورقها، ويُستَظَلُّ بأغصانها، ويُفطَر على ثمارها، وقال مُقاتِلُ بن حيَّان: وكان يَسْتظِلُّ بالشجرة، وكانت وَعلةً تختلف إليه، فيشرب مِن لبنِها.
          قوله: (مِنْ غَيْرِ ذَاتِ أَصْلٍ) صفة {يَقْطِينٍ} أي: مِن {يقطينٍ} كائنٍ مِن غير ذات أصل.
          قوله: (الدُّبَّاءِ) بالجرِّ، بدلٌ مِن {يَقْطِينٍ} أو بيانٌ، وليس هو مضافًا إليه، فافهم.
          قوله: (وَنَحْوِهِ) أي: ونحو اليقطين: كالقثَّاء والبطِّيخ.
          (ص) {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}[الصافات:147].
          (ش) أي: وأرسلنا يونسَ.
          وفي «تفسير النَّسَفِيِّ»: يجوز أن يكون قبل حبسه في بطن الحوت، وهو ما سبق مِن إرساله إلى قومه مِن أهل نينوى، وقيل: هو إرسالٌ ثانٍ بعدما جرى عليه في الأوَّلين.
          والغرضُ مِن قوله: ({إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}) الكثرةُ، وقال مقاتلٌ: معناه: بل يزيدون، وعنِ ابنِ عَبَّاسٍ: معناه: ويزيدون، وعنه: مبلغُ الزيادة على مئة ألفٍ عشرون ألفًا، وعن الحسن والربيع: بضعٌ وثلاثون ألفًا، وعن ابن حِبَّان: سبعون ألفًا.
          (ص) {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}[الصافات:148].
          (ش) يعني: فأمَنَ قومُ يونسَ عند معاينة العذاب.
          قوله: ({فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}) أي: إلى أجلٍ مسمًّى، إلى حين انقضاءِ آجالهم.
          (ص) {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ}[القلم:48] كَظِيمٌ، وَهْوَ مَغْمُومٌ.
          (ش) الخطاب للنبيِّ صلعم ؛ أي: لا تكن يا مُحَمَّدُ كصاحب الحوت، / وهو يونس في الضجر والغضب والعجلة.
          قوله: ({إِذْ نَادَى}) أي: حين دعا ربَّه في بطن الحوت وهو كَظِيمٌ؛ أي: مملوءٌ غيظًا، مِن كظمَ السقاء؛ إذا ملأه، وأشار بقوله: (كَظِيمٌ) إلى أنَّ (مكظوم) على وزن (مفعول)، ولكنَّه بمعنى: (كظيم) على وزن (فعيل)، وفسَّره بقوله: (وَهُوَ مَغْمُومٌ)، وقيل: محبوسٌ عن التصرُّف.