عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: {وإن إلياس لمن المرسلين*إذ قال لقومه ألا تتقون}
  
              

          ░4▒ (ص) بابٌ {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ. أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخَالِقِينَ. اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ. فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. إِلَّا عِبَادَ اللهِ المُخْلَصِينَ. وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ. سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ. إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ. إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ}.
          (ش) أي: هذا بابٌ معقودٌ فيه قوله تعالى: ({وَإِنَّ إِلْيَاسَ...}) إلى آخره[الصافات:123-131].
          (إلياس) هو ابن تسبي بن فِنْحَاص بن العَيزار بن هارون بن عِمْرَان، قاله ابن إسحاق، وعن ابن عَبَّاس: إلياس بن ياسين بن العَيزار بن هارون، وبه قال مقاتل، وحكى الثعلبيُّ عن ابن مسعود: أنَّ إلياسَ هو إدريسُ، كما أنَّ يعقوبَ هو إسرائيلُ، قال عِكْرِمَة: وكذا في مصحف ابن مسعود: {وإنَّ إدريسَ لمن المرسلين}، وقيل: هو نبيٌّ مِن أنبياء بني إسرائيلَ، وعن ابن عَبَّاسٍ: هو عمُّ اليسع، وقال آخرون: بعثه الله إلى بني إسرائيل / بعد مَهلَك حَزقيل، وقال وهب: إنَّ اللهَ لمَّا قبض حزقيل، وعظَّم في بني إسرائيل الأحداثَ، ونسُوا ما كان مِن عهد الله إليهم، حَتَّى نصبوا الأوثان وعبدوها؛ فبعث الله إليهم إلياسَ رسولًا، وكان إلياسُ مع ملِكٍ مِن ملوك بني إسرائيلَ، اسمه أجَّاب، وله امرأةٌ اسمها إِزْبيل، وكان يسمع منه ويصدِّقه، وكان بنو إسرائيل قد اتَّخذوا صنمًا يقال له: بعلٌ، وقال ابن إسحاق: سمعت بعض أهل العلم يقول: ما كان بعلٌ إلَّا امرأةً يعبدونها مِن دون الله، فجعل إلياسُ يدعوهم إلى الله تعالى، وهم لا يسمعون مِنه شيئًا إلَّا ما كان مِن ذلك الملِك، ثُمَّ إنَّهُ قال يومًا لإلياس: والله ما أرى ما تدعو إليه إلَّا باطلًا، والله ما أدري فلانًا وفلانًا _فعدَّد ملوكًا مثلَه مِن ملوك بني إسرائيل، متفرِّقون بالشام، يعبدون الأوثان_ إلَّا على مثل ما نحن عليه، يأكلون ويشربون، ما تنقصُ دنياهم، فيزعمون أنَّ إلياسَ استرجع، ثُمَّ رفضه، وخرج عنه، وفعل ذلك الملِكُ ما فعل أصحابُه مِن عبادة الأوثان، فقال إلياس: اللهمَّ؛ إنَّ بني إسرائيل قد أبَوا إلَّا الكفرَ، فذكر لي أنَّهُ أوحى إليه: أنَّا جعلنا أمرَ أرزاقهم بيدك، حَتَّى تكون أنت الذي تأذن لهم في ذلك، فقال إلياس: اللهمَّ؛ أمسِكْ عنهم المطرَ، فحُبِسَ عنهم ثلاثَ سنين، حَتَّى هلكتِ المواشي والهوامُّ والشجرُ، ولمَّا دعا عليهم؛ استخفى شفقةً على نفسه منهم، فكان حيث ما كان وُضِع له رزقٌ، وكانوا إذا وجدوا ريحَ الخبز في مكان؛ قالوا: لقد دخل إلياسُ هذا المكانَ، فيطلبونه، ويلقى أهلُ ذلك المنزلِ منهم شرًّا، ثُمَّ إنَّهُ استأذن الله في الدعاء لهم، فأذن له، فجاءهم، فقال: إن كنتم تجيبون أنَّ الذي أدعوكم إليه هو الحقُّ، وأنَّكم على باطلٍ؛ فأخرِجوا أوثانَكم وما تعبدون، واجأروا إليهم، فإنِ استجابوا لكم؛ فهو كما تقولون، وإن هي لم تفعلْ؛ علمتم أنَّكم على باطلٍ، وادعوا الله تعالى يفرِّج عنكم ما أنتم فيه، قالوا: أنصفتَ، فخرجوا بأوثانهم، فدعَوها، فلم تستجبْ لهم، فعرفوا ما هم عليه مِنَ الضلالة، ثُمَّ سألوا إلياسَ الدعاءَ، فدعا ربَّه، قال: فمُطِروا بساعتهم، فحسُنت بلادُهم، فلم ينزِعوا، ولم يرجعوا، وأقاموا على أخبثَ ما كانوا عليه، فدعا اللهَ تعالى أن يقبضه، فكساه الريشَ، وألبسه النورَ، وقطع عنه لذَّةَ المطعَم والمشرب، فكان إنسيًّا ملكيًّا، أرضيًّا سماويًّا، يطير مع الملائكة، وذكر الحاكم عن أنس مصحَّحًا: أنَّهُ اجتمع مع سيِّدنا رسول الله صلعم في بعض السفرات، وخالفه ابن الجوزيِّ في تصحيحه.
          قوله: ({إِذْ قَالَ}) أي: اذكر حين قال إلياس لقومه: ({أَلَا تَتَّقُونَ}) عذاب الله بالإيمان به؟
          قوله: ({أَتَدْعُونَ بَعْلًا}) أي: أتعبدون بعلًا؛ وهو اسمٌ لصنم كان لهم يعبدونه؛ فلذلك سُمِّيت مدينتُهم بعلبكَّ، وقال مجاهد وعِكرمة وقتادة والسدِّيُّ: «البعل» الربُّ بلغة أهل اليمن، وهي رواية سعيد بن جبيرٍ عن ابن عَبَّاس، وكان مِن ذهبٍ، طوله عشرون ذراعًا، وله أربعة أوجهٍ، فُتِنوا به وعظَّموه، وله أربع مئة سادنٍ، جعلوهم أنبياءَ، فكان إبليسُ يدخل في جوفه، ويتكلَّم بشريعة الضلالة، والسدَنَة يحفظونها، ويعلِّمونها الناسَ، وهم أهل بعلبكَّ مِن بلاد الشام.
          قوله: ({وَتَذَرُونَ}) أي: تتركون ({أَحْسَنَ الخَالِقِينَ})، فلا تعبدون ({اللهَ رَبَّكُمْ})، قرأ حمزة والكسائيُّ وخلَف [وحفص] ويعقوب: {اللهَ} بالنصب، وينصبون {ربَّكم وربَّ آبائكم} على البدل، والباقون برفعها على الاستئناف.
          قوله: ({فَكَذَّبُوهُ}) أي: إلياس.
          قوله: ({فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}) في العذاب والنار ({إِلَّا عِبَادَ اللهِ المُخْلَصِينَ}) مِن قومه، فَإِنَّهُم نجَوا مِنَ العذاب.
          قوله: ({سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ}) قرأ ابن عامر ونافع ويعقوب: {آل ياسين} بالمدِّ، [والباقون]: {إِلْ ياسين} بالقطع والقصر، فمَن قرأ: {آل ياسين} بالمدِّ؛ فَإِنَّهُ أراد آل مُحَمَّدٍ صلعم ، وقيل: أراد: آل إلياس، وهو أليقُ بسياق الآية، ومَن قرأ: {إل ياسين}؛ فقد قيل: إنَّها لغةٌ في إلياس؛ مثل: إسماعيل وإسماعين، وميكائيل وميكائين، وقال الزَّمَخْشَريُّ: قُرِئ: {عَلَى إلْ يَاسِينَ} و{إدريسين} و{إدراسين} على أنَّها لغاتٌ في إلياسَ وإدريسَ، ولعلَّ لزيادة الياء والنون في السريانيَّة معنًى، وعن بعضهم: أنَّهُ قُرِئ: {اَلْياس} بترك الهمزة في ألف (إلياس)، / ويجعل الألف واللام داخلين على (ياس) للتعريف، ويقولون: كان اسمه (ياس)، فدخلت عليه الألف واللام.
          (ص) وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاس ♥ : أَنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ.
          (ش) ذكره معلَّقًا بصيغة التَّمريض، ووصل تعليقَ عبد الله بن مسعودٍ عبدُ بن حُميد وابن أبي حاتم عنه، وتعليق ابن عَبَّاس وصله جويبر في «تفسيره» عن الضحَّاك عنه، واستدلَّ بهذا ابنُ العربيِّ أنَّ إدريسَ لم يكن جدًّا لنوحٍ ◙ ، وإِنَّما هو مِن بني إسرائيل؛ لأنَّ إلياسَ قد ورد أنَّهُ مِن بني إسرائيل، واستدلَّ على ذلك أيضًا بقوله ◙ للنبيِّ صلعم ليلة المعراج: مرحبًا بالنَّبِيِّ الصالح، والأخ الصالح، ولو كان مِن أحد أجداده؛ لقال له كما قال له آدم وإبراهيم ♂ : (بالابن الصالح).
          قيل: يمكن أنَّهُ قال ذلك على سبيل التواضع والتلطُّف، وقد ذكرنا عن قريبٍ كيف ساق ابنُ إسحاقَ نسبَه الكريم، وفيه إدريس؛ وهو: خنوخ، وهو المشهور عند الجمهور.