عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب
  
              

          ░45▒ (ص) بابٌ
          (ش) هو كالفَصل لِما قبله؛ فلذلك جَرَّد عنه الترجمة.
          (ص) {وَإِذْ قَالَتِ المَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ. يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ. ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}[آل عِمْرَان:42-44].
          (ش) هذا إخبارٌ مِنَ الله بما خاطبت به الملائكةُ مريمَ ♀، عن أمر الله لهم بذلك.
          قوله: ({اصْطَفَاكِ}) أي: اختارك وطهَّرك مِنَ الأكدار والوساوس، و({اصْطَفَاكِ}) ثانيًا مَرَّةً بعد مَرَّةٍ ({عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ}).
          قوله: ({اقْنُتِي}) أمرٌ مِنَ القنوت؛ وهو الطاعة، ({وَاسْجُدِي وَارْكَعِي}) الواو لا تقتضي الترتيب، وقيل: معناه: استعملي السجودَ في حالة، والركوعَ في حالة، وقيل: على حالة، وكان السجودُ مقدَّمًا على الركوع في شرعهم.
          قوله: ({وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}) أي: لتكُنْ صلاتُكِ مع الجماعة، وقال: {مَعَ الرَّاكِعِينَ} مع الراكعين؛ لأنَّه أعمُّ مِنَ (الرَّاكِعَات) ؛ لوقوعه على الرجال والنساء.
          قوله: ({ذَلِكَ}) إشارةٌ إلى ما سبق مِن نبأ زكريَّا ويحيى ومريم وعيسى؛ يعني: أنَّ ذلك مِنَ الغيوب التي لم تَعرفها إلَّا بالوحي.
          قوله: ({نُوحِيهِ إِلَيْكَ}) أي: نقصُّه عليك.
          قوله: ({وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ}) أي: ما كنتَ يا مُحَمَّد عندهم.
          قوله: ({إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ}) أي: حين يُلقُون أقلامهم؛ أي: يطرحون أزلامهم؛ وهي قِداحُهم التي طَرَحوها في النهر مقترِعين، وقيل: هي الأقلامُ / التي كانوا يكتبون بها التوراة، اختاروها للقرعة؛ تبرُّكًا بها.
          [قوله]: ({إِذْ يَخْتَصِمُونَ}) في شأنها؛ تنافُسًا في التكفُّل بها؛ لرغبتهم في الأجر.
          (ص) يُقَالُ: {يَكْفُلُ} يَضُمُّ، {كَفَلَهَا}: ضَمَّهَا، مُخَفَّفَة، لَيْسَ مِنْ كَفَالَةِ الدُّيُونِ وَشِبْهِهَا.
          (ش) أشار بهذا إلى ما في قوله تعالى: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ...}[آل عِمْرَان:44] إلى قوله: {وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّاءُ}[آل عِمْرَان:37] يعني: ضمَّ مريمَ إلى نفسه، وما ذاك إلَّا أنَّها كانت يتيمةً، قاله ابن إسحاق، وقال غيرُه: إنَّ بني إسرائيلَ أصابتهم سَنةُ جَدْبٍ، فكفل زكريَّا مريم لذلك، ولا منافاةَ بين القولين.
          قوله: (مُخَفَّفَة) أي: حال كون كلمة {كَفَلَهَا} بتخفيف الفاء، وفي قوله: (لَيْسَ مِنْ كَفَالَةِ الدُّيُونِ) نظرٌ؛ لأنَّ في كفالة الدُّيون أيضًا معنى الضمِّ؛ لأنَّ الكفالة ضمُّ الذمَّة إلى الذمَّة في المطالبة، وقراءةُ التخفيف قراءةُ الجمهور، وقراءةُ الكوفيِّين بالتشديد، فعلى هذا ينتصب {زَكَرِيَّا} على المفعوليَّة، وقال أبو عبيدة: يقال في {وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّاءُ} بفتح الفاء وكسرها، وبالكسر قرأ بعض التَّابِعينَ.