عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله عزوجل: {وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر}
  
              

          ░6م▒ (ص) باب قَوْلِ اللهِ ╡ : {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} شَدِيدَةٍ {عَاتِيَةٍ} قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَتَتْ عَلَى الخُزَّانِ {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} مُتَتَابِعَةً {فَتَرَى القَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} أُصُولُهَا {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} بَقِيَّةٍ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان تفسير قول الله تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ. سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى القَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}[الحاقة:6-8].
          قوله: ({وَأَمَّا عَادٌ}) عطفٌ على ما قبله، وهو قوله: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ}، وقصَّةُ عادٍ مرَّت في الباب السابق، وقد فسَّر البُخَاريُّ: (الصرصر) بقوله: (شَدِيدَةٍ) ({عَاتِيَة})، و(عَاتِية) مِن عتا يعتو عُتوًّا؛ إذا جاوز الحدَّ في الشيء، ومنه (العاتي) وهو الذي جاوز الحدَّ في الاستكبار.
          قوله: (قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ) أي: سفيان بن عُيَيْنَةَ، ({عَتَتْ}) أي: الريح على الخُزَّان، بِضَمِّ الخاء، جمع (خازن)، وهم الملائكة الموكَّلون بالريح؛ يعني: عتت عليهم، فلم تطعْهم وجاوزتِ المقدارَ، وقيل: عتت على خُزَّانها، فخرجت بلا كيلٍ ولا وزنٍ، وعن ابن عَبَّاسٍ: قال رسول الله صلعم : «ما أرسل الله تعالى نَسَمَةً مِن ريحٍ إلَّا بمكيالٍ، ولا قطرةً مِن مطرٍ إلَّا بمكيالٍ، إلَّا يوم عادٍ ويوم نوحٍ، [فَإِنَّ المَاء يَوْم نوح] طغى على الخُزَّان، فلم يكن لهم [عَلَيْهِ سَبِيل، ثمَّ قَرَأَ: {إِنَّا لمَّا طَغى المَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجَارِيَة}[الحاقَّة:11]، وَإِن الرِّيح يَوْم عَاد عَتَتْ عَلَى الخزَّان، فَلم يكن لَهُم] عليها سبيلٌ»، وقيل: الصَّرصر: شديد / الصوت، لها صرصرةٌ، وقيل: ريحٌ صرصرٌ باردةٌ، مِنَ الصرِّ، كأنَّها التي كُرِّر فيها البردُ وكثُرَ، فهي تحرق بشدَّة بردِها.
          قوله: ({سَخَّرَهَا}) يعني: أرسلها، وسلَّطها عليهم، والتسخير: استعمال الشيء بالاقتدار.
          قوله: ({حُسُومًا}) فسَّره البُخَاريُّ بقوله: (مُتَتَابِعَة) ؛ وكذا فسَّره أبو عبيدة، وقال الضحَّاك: كاملةً، لم تفترْ عنهم حَتَّى أفنَتْهم، وقال عطيَّة: شُؤمًا، كأنَّها حسمَتِ الخيرَ عن أهلها، وقال الخليل: قطعًا لدابِرِهم، والحَسْم: القطع والمنع، ومنه: حَسْم الرَّضاع، وقال النَّضْر بن شُمَيْل: حسَمَهُم فقطعَهم، وانتصابُ {حُسُومًا} على الحال، قال الزَّمَخْشَريُّ: الحُسوم: إمَّا جمع «حاسمٍ»؛ كـ«شهودٍ» جمع «شاهدٍ»، وإمَّا مصدرٌ؛ كـ«الكُفور» و«الشُّكور»، فإن كان جمعًا؛ يكون حالًا؛ يعني: حاسمةً، وإن كان مصدرًا؛ يكون منصوبًا بفعلٍ مُضمَرٍ؛ أي: يحسم حسومًا؛ بمعنى: يستأصل استئصالًا، أو يكون صفةً؛ كقولك: ذات حسومٍ، أو يكون مفعولًا له؛ أي: سخَّرها عليهم للاستئصال.
          قوله: ({فَتَرَى القَوْمَ فِيهَا}) أي: في تلك الأيَّام واللَّيالي، وقيل: في الريح، وقيل: في بيوتهم.
          قوله: ({صَرْعَى}) جمع (صريع) يعني: ساقط.
          قوله: ({كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ}) أي: جذوع نخلٍ، وقيل: أصول نخلٍ؛ وهو ما يبقى على المكان بعد قطع الجذع.
          قوله: ({خَاوِيَةٍ}) أي: ساقطةٍ، وشبَّههم بأعجاز نخلٍ؛ لعِظَم أجسامهم، قيل: كان طولهم اثني عشر ذراعًا، وقال أبو حمزة: طول كلِّ رجلٍ منهم كان سبعين ذراعًا، وعن ابن عَبَّاس: ثمانين ذراعًا، وقال ابن الكلبيِّ: كان أطولُهم مئةَ ذراع، وأقصرُهم ستِّين ذراعًا، وقال وهب بن منبِّه: كان رأسُ أحدهم مثلَ القبَّة العظيمة، وكان عين الرجل يُفرِخ فيها السِّباع، وكذلك مناخرُهم، وقيل: خاويةٌ: خاليةُ الأصواتِ مِنَ الحياة، وقيل: خاويةٌ مِنَ الأحشاء؛ لأنَّ الريحَ أخرجت ما في بطونهم.
          قوله: ({فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}) أي: مِن (بَقِيَّةٍ)، أو مِن نفسٍ باقيةٍ؟ وقيل: الباقية مصدرٌ؛ كالعاقبة؛ أي: فهل ترى لهم مِن بقاءٍ؟.