عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قوله تعالى: {إذ قالت الملائكة يا مريم}
  
              

          ░46▒ (ص) بابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ قَالَتِ المَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان قوله تعالى: ({إِذْ قَالَتِ المَلَائِكَةُ...}. إلى آخره [آل عِمْرَان:45])، وفي بعض النُّسَخ: <باب قول الله تعالى>، وليس في بعضها <إلى قوله> إلى آخره، وقد مرَّ الكلام في هذه الترجمة في الباب الذي قبل الباب المجرَّد، الذي قبل هذا الباب.
          قوله: (إِلَى قَوْلِهِ) أي: اقرأ إلى قوله: {فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وهو قوله: / {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[آل عِمْرَان:45-47].
          قوله: ({وَجِيهًا}) أي: شريفًا، ذا جاهٍ وقَدْر.
          قوله: ({وَمِنَ المُقَرَّبِينَ}) أي: عند الله بالثواب والكرامة.
          قوله: ({وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ}) يعني: صغيرًا في حِجْرِ أمِّه، وقيل: في الموضع الذي مُهِّد للنَّوم، رُوِيَ عنها أنَّها قالت: كنتُ إذا خلوتُ به؛ أُحادثُه ويُحادُِثني، فإذا شغلني عنه إنسانٌ؛ يُسبِّح في بطني وأنا أسمع، واختلفوا: هل كان نبيًّا وقتَ كلامه؟ فقيل: نعم؛ لظهور المعجزة، وقيل: لا، وإِنَّما جُعِلَ ذلك تأسيسًا لنبوَّته.
          قوله: ({وَكَهْلًا}) قال الزَّمَخْشَريُّ: {فِي المَهْدِ} نصب على الحال، و{كَهْلًا} عطف عليه؛ بمعنى: ويُكلِّم الناس طِفلًا وكَهْلًا؛ يعني: يُكلِّم في هاتينِ الحالتينِ بكلام الأنبياء ‰ .
          قوله: ({وَمِنَ الصَّالِحِينَ}) أي: في قولِه وعملِه.
          قوله: ({وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}) أي: لم يُصِبْني رجلٌ.
          قوله: ({إِذَا قَضَى أَمْرًا}) أي: إذا أراد تكوينَه؛ ({فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}) لا يتأخَّر من وقته، بل يوجد عقيبَ الأمر بلا مُهلةٍ.
          (ص) {يَبْشُرُكِ} وَ{يُبَشِّرُكِ} واحِدٌ.
          (ش) الأَوَّل من (باب نصر ينصُر) وهو قراءة حمزة والكسائيِّ، والثاني: من باب (التفعيل)، من التبشير، و(البشير) هو الذي يُخبِر المرء بما يَسُرُّه مِن خير، ولا يُستَعمَل في الشرِّ إلَّا تهكُّمًا.
          (ص) {وجِيهًا}: شَرِيفًا.
          (ش) فسَّر ({وجِيهًا}) الذي في قوله تعالى: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}[آل عِمْرَان:45]. بقوله: (شَرِيفًا)، وقد مرَّ تفسيرُه عن قريبٍ، وانتصابُه على الحال.
          (ص) وقال إبْرَاهِيمُ: المَسيحُ: الصِّدِّيقُ.
          (ش) أي: (قَالَ إبْرَاهِيمُ) النَّخَعِيُّ: (المَسيحُ: الصِّدِّيقُ)، وكذا فسَّره سفيان الثَّوْريُّ بإسناده إلى إبراهيم، وفيه معانٍ أُخَرُ نذكرها الآن.
          فَإِنْ قُلْتَ: الدجَّال أيضًا سُمِّيَ بـ(المسيح) ؟ قُلْت: أَمَّا معناه في عيسى ◙ ؛ ففيه أقوالٌ تبلغُ ثلاثةً وعشرين قولًا، ذكرناها في كتابنا «زَيْن المَجَالِس»؛ منها: ما قيل: إنَّ أصله (المَسْيَح) على وزن (مَفْعَل) فأُسكِنَتِ الياء، ونُقلتْ حركتُها إلى السين؛ طلبًا للخفَّة، وعن ابنِ عَبَّاس: كان لا يمسحُ ذا عاهةٍ إلَّا برئ، ولا ميتًا إلَّا حيِيَ، وعنه: لأنَّه كان أمسح الرِّجْل، ليس لها أخمص، والأخمص مَن لا يَمَسُّ الأرض مِن باطن الرِّجْل، وعن أبي عبيدة: أظنُّ أنَّ هذه الكلمة «مشيحًا» بالشين المُعْجَمة، فعُرِّبت، وكذا تنطقُ به اليهود، وقيل: لأنَّه خَرَج مِن بطن أمَّه كأنَّه ممسوحٌ بالدُّهْنِ، وقيل: لأنَّ زكريَّا ◙ مسحه، وقيل: لحسن وجهه؛ إذ (المسيح) في اللغة: جميل الوجه، وقيل: لأنَّه كان يمسح الأرض؛ لأنَّه قد يكون تارةً في البلدان، وتارةً في المفاوز والفَلَوات، وقال الداوديُّ: لأنَّه كان يلبَسُ المُسُوح.
          وأَمَّا معناه في الدجَّال، فقيل: لأنَّه كان يمسح الأرض؛ أي: يقطعُها.
          فَإِنْ قُلْتَ: قد ذكَرتَ هذا المعنى في عيسى ◙ ؟ قُلْت: إن كان في هذا الوجه اشتراكٌ؛ بحسب الظاهر؛ لأنَّ (المسيح) في عيسى بمعنى: الممسوح عنِ الآثام، وعن كلِّ شيء فيه قبحٌ، (فعيل) بمعنى: مفعول، وفي الدجَّال: (فعيل) بمعنى: فاعل؛ لأنَّه يمسح الأرض، وقيل: لأنَّه لا عينَ له ولا حاجب، وقال ابن فارس: المسيح: أحد شقَّي وجهِه ممسوحٌ، لا عينَ له ولا حاجب؛ فلذلك سُمِّيَ به، وقيل: المسيح: الكذَّاب، وهو مختصٌّ به؛ لأنَّه أكذبُ البَشَر؛ فلذلك خصَّه الله بالشَّوَه والعَوَر، وقيل: المسيح: المارِد الخبيث، وهو أيضًا مختصٌّ به بهذا المعنى، ويقال فيه: مسيخ؛ بالخاء المُعْجَمة؛ لأنَّه مشوَّهٌ مثلُ الممسوخ، ويقال فيه: مِسِّيخ؛ بكسر الميم وتشديد السين؛ للفرق بينه وبين المسيح ابن مريم ♂ .
          (ص) وقالَ مُجَاهِدٌ: الكَهْلُ الحَلِيمُ.
          (ش) كذا قاله مجاهدٌ في قوله: {وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ}[آل عِمْرَان:46]، وقال أبو جعفر النحَّاس: هذا لا يُعرَف في اللُّغة، وإِنَّما الكَهْل عندهم مَن ناهَزَ الأربعين أو قارَبَها، وقيل: مَن جاوز الثَّلاثين، وقيل: الكهل ابنُ ثلاثٍ وثلاثين.
          (ص) والأكْمَهُ: مَنْ يُبْصِرُ بالنَّهَارِ، ولَا يُبْصِرُ باللَّيْلِ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى حكايةً عن عيسى ◙ : {وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ}[آل عِمْرَان:49]، وقيل: بعكسه، وقيل: هو الأعشى، وقيل: / الأَعْمَش.
          (ص) وقال غَيْرُهُ: مَنْ يُولَدُ أعْمى.
          (ش) أي: قال غيرُ مجاهدٍ: (الأَكْمَهُ) هو الذي يولد أعمى، وهو الأشبهُ؛ لأنَّه أبلغُ في المعجزة، وأقوى في التحدِّي.