عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها}
  
              

          ░48▒ (ص) بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا}.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان حال مريم ♀ في قولِه تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ....} الآية [مريم:16]، وهذه الترجمةُ بعينِها قد تَقَدَّمَت قبلَ هذا الباب ببابينِ، ومضى الكلامُ فيها.
          (ص) نبَذْنَاهُ ألْقَيْنَاهُ، فَاعتَزَلَتْ شَرْقِيًّا: مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ.
          (ش) لفظ (نبَذْنَاهُ) في قصَّة يونس؛ وهو قوله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ}[الصافات:145]، وروى الطَّبَريُّ من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عَبَّاس ☻ في قوله: {فَنَبَذْنَاهُ} قال: (ألْقَيْنَاهُ)، وليس لذكره ههنا مناسبة؛ لأنَّ المذكور في قصَّة مريم ♀ لفظُ {انْتَبَذَتْ[ومعنى {انْتَبَذَتْ} غيرُ معنى (نبَذْنَاهُ) على ما لا يخفى.
          وأشار إلى معنى {انْتَبَذَتْ}]
بقوله: (فَاعْتَزَلَتْ شَرْقِيًّا؛ مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ) أي: اعتزلت وانفردت وتخلَّت للعبادة في مكانٍ شرقيٍّ، مِمَّا يلي شرقيَّ بيتِ المقدس، أو مكانٍ شرقيٍّ مِن دارها، وقد مرَّ هذا التفسير عن قريبٍ.
          (ص) {فأجاءَهَا} أفْعَلْتُ، مِنْ جِئْتُ، وَيُقَالُ: ألْجَأَهَا اضْطَرَّهَا.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ}[مريم:23]، وأشار بقوله: (أفْعَلْتُ مِنْ جِئْتُ) إلى أنَّ لفظ (أجاء) مزيدُ (جاء) ؛ تقول: (جئتُ) ؛ إذا أخبرتَ عن نفسك، ثُمَّ إذا أردتَ أن تُعدِّيَ به إلى غيرك؛ تقول: (أجأتُ زيدًا)، وهنا كذلك بالتعدية؛ لأنَّ الضمير في (أجاءها) يرجع إلى مريم، وفاعل (أجاء) هو قوله: {المَخَاضُ}؛ أي: الطَّلْق، {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ}[أي: ساقها، وكانت نخلةً يابسةً في الصحراء، ليس لها رأسٌ، ولا ثمرٌ، ولا خضرة، وقصَّتها مشهورة.
          قوله: (وَيُقَالُ: أَلْجَأَهَا: اضْطَرَّهَا) إشارةٌ إلى أنَّ بعضهم قالوا: إنَّ معنى {فَأَجَاءَهَا}: ألجأها، يعني: ألجأها المخاضُ إلى جِذْع النخلة]
، وقال الزَّمَخْشَريُّ: إنَّ «أجاء» منقولٌ من «جاء» إلَّا أنَّ استعماله تغيَّر بعد النقل إلى معنى الإلجاءِ.
          (ص) تَسَّاقَطُ: تَسْقُطُ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تَسَّاقَطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}[مريم:25]، وفسَّر (تَسَّاقَطُ) بقوله: (تَسْقُطُ)، قرأ حمزة بفتح التاء وتخفيف السين، وقرأ حفص عن عاصمٍ بِضَمِّ التاء وكسر القاف، وقرأ الباقون بتشديد السين، أصله: (تَتَسَاقط)، أُدغِمتِ التاءُ في السين.
          قوله: {رُطَبًا} تمييز، {جَنيًّا} غضًّا طريًّا.
          (ص) {قَصِيًّا} قَاصِيًا.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا}[مريم:22]، وفسَّر ({قَصِيًّا}) بقوله: (قَاصِيًا) وهكذا فسَّره مجاهد، وقال أبو عبيدة: {قَصِيًّا} أي: بعيدًا، قال ابن عَبَّاس: أقصى وادي بيت لحمٍ؛ فرارًا من قومها أن يُعيِّروا ولادتَها من غير زوجٍ، وقرأ ابن مسعود وابن أبي عَبلة: {قاصيًا}، وقال الفَرَّاء: القاصي والقَصيُّ بمعنًى.
          قُلْت: أصله مِنَ (القَصْوِ) وهو البُعْد، و(الأقصى) الأبعد.
          (ص) {فَرِيًّا} عَظيمًا.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}[مريم:27]، وفسَّر ({فَرِيًّا}) بقوله: (عَظِيمًا)، وفي «تفسير النَّسَفِيّ»: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} بديعًا، مِن فرى الجلدَ، وقال أبو عبيدة: كلٌّ فائقٍ مِن عَجَبٍ أو عَمَل؛ فهو فريٌّ، وقيل: الفريُّ: الولد مِنَ الزنى؛ كالشيء المُفتَرَى، وقال قُطرُب: الفَرِيُّ: الجِلْد الجديد مِنَ الأسقيَة؛ أي: جئتِ بأمر عجيبٍ، أو أمرٍ جديد، لم تُسبقَي إليه.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس: {نِسْيًا} لَمْ أَكُنْ شَيْئًا، وَقَالَ غَيْرُهُ: النِّسْيُ: الحَقِيرُ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى حكايةً عن مريم: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نِسْيًا مَنْسِيًّا}[مريم:23[وفسَّر ابن عَبَّاس قوله: ({نِسْيًا}) بقوله: (لَمْ أَكُنْ شَيْئًا)، وروى الطَّبَريُّ من طريق ابن جُرَيْجٍ عن عطاءٍ / عن ابن عَبَّاس في قوله: ({نِسْيًا مَنْسِيًّا}) ] أي: لم أُخلَقْ ولم أكُ شيئًا.
          قوله: (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غيرُ ابنِ عَبَّاس: (النِّسْيُ: الحَقِيرُ)، وهو قول السُّدِّيَّ، وقرأ ابن كثير ونافعٌ وأبو عَمْرٍو وابن عامرٍ والكسائيُّ وأبو بكرٍ عن عاصم: {نِسْيًا} بكسر النون، وقرأ حمزة وحفصٌ عن عاصمٍ بفتح النون، وهما لغتان، وقال أبو علي الفارسيُّ: الكسرُ أعلى اللُّغتين، وقال ابن الأَنْبَارِيِّ: مَن كسر النون؛ قال: النِّسيُ: اسم لِما يُنسى بمنزلة البِغْض؛ اسمٌ لِما يُبغض، والنَّسيُ؛ بالفتح: اسمٌ لِما ينسى أيضًا، على أنَّهُ مصدرٌ ناب عنِ الاسم، وقيل: {نِسْيًا} لم أُذكَر فيما مضى.
          (ص) وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: عَلِمَتْ مَرْيَمُ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ حِينَ قَالَتْ: {إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}.
          (ش) (أَبُو وَائِلٍ) شقيقُ بن سَلَمة، وذَكَر هذا في قوله تعالى حكايةً عن مريم: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}[مريم:18]، وإِنَّما قالت مريم هذا حين رأتْ جبريل ◙ ؛ يعني: إن كنتَ تقيًّا؛ فانتهِ عنِّي، وعن ابن عَبَّاس: أنَّهُ كان في زمانِها رجلٌ يقال له: تقيٌّ، وكان فاجرًا، فظنَّته إيَّاه، وقيل: كان تقيٌّ رجلًا مِن أمثلِ الناس في ذلك الزمان، فقالت: إن كنتَ في الصلاح مثلَ التقيِّ؛ فإني أعوذ بالرَّحْمَن منك؛ كيف يكون رجل أجنبيٌّ وامرأة أجنبيَّة في حجاب واحد؟
          قوله: (ذُو نُهْيَةٍ) بِضَمِّ النون وسكون الهاء؛ أي: ذو عقلٍ وانتهاءٍ عن فعل القبيح.
          (ص) قَالَ وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ البَرَاءِ ☺ : {سَرِيًّا} نَهَرٌ صَغِيرٌ بِالسُّرْيَانِيَّةِ.
          (ش) (وَكِيعٌ) هو ابن الجرَّاح الرُّؤَاسِيُّ الكوفيُّ، و(إِسْرَائِيلُ) ابْنُ يُونُسَ بن أبي إسحاق، يروي عن جدِّه أبي إسحاق السَّبِيعيِّ، واسمه عَمْرٌو، وهو يروي عنِ البراء بن عازِبٍ: أنَّ (السَّريَّ) في قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}[مريم:24] هو النَّهر الصغير بالسُّريانيَّة، وكذا رواه ابن أبي حاتمٍ من طريق الثَّوْريِّ، والطَّبَريُّ من طريق شُعَيْب؛ كلاهما عن أبي إسحاق عن البراء موقوفًا، وعن ابن جُرَيْج: هو الجدول بالسُّريانيَّة، وقيل: هو نهرٌ صغيرٌ.