عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى{وضرب الله مثلًا للذين آمنوا امرأة فرعون}
  
              

          ░32▒ (ص) بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ}.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان آسية بنت مُزَاحم امرأة فرعون، التي ذكرها الله تعالى في قوله: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ}[التحريم:11-12].
          قوله: ({ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا}...) إلى آخره: مثَّل حال المؤمنين _في أنَّ وُصلةَ الكافرين لا تضرُّهم، ولا تنقص شيئًا مِن ثوابهم وزُلفاهم عند الله_ بحال امرأة فرعون ومنزلتِها عند الله، مَعَ كونِها امرأةَ أعدى أعداءِ الله الناطقِ بالكلمة العُظمى، وأراد بـ{امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ}: آسية بنت مُزَاحم؛ لمَّا غلب موسى سَحَرةَ فرعون؛ آمنت، فلمَّا تبيَّن إيمانُها لفرعون، وثبتت عليه؛ أوتد يديها ورِجْلَيها بأربعة أوتاد، وألقاها في الشمس، وأمر بصخرةٍ عظيمةٍ فتُلقى عليها، فلمَّا أتَوا بالصخرة؛ {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ}، فأبصرت بيتَها في الجنَّة مِن دُرَّة، وانتزع الله روحَها، فأُلقيَتِ الصخرةُ عليها وليس في جسدها روحٌ، فلم تجِدْ ألمًا مِن عذاب فرعون، وعنِ الحسن وابن كَيْسان: رفَعَ الله امرأةَ فرعون إلى الجنَّة، فهي فيها تأكلُ وتشرَبُ.
          قوله: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ} عطف على {امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ}؛ أي: وَضَرَب الله مثلًا للذين آمنوا مريمَ ابنة عِمْرَان، وما أوتيتْ مِنَ الكرامة مِن كرامات الدنيا والآخرة، والاصطفاء على نساء العالمين، مع أنَّ قومها كانوا كُفَّارًا.
          قوله: ({وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ}) أي: مِنَ القوم القانتين؛ فلذلك لم يقل: (مِنَ القانتات).
          و(آسية) هي بنت مُزَاحم، ابنة عمِّ فرعون، وقيل: إنَّها من العماليق، وقيل: من بني إسرائيل، من سبط موسى، وقال السُّهيليُّ: هي عمَّة موسى، وكانت لها فِراسة حين قالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ}[القصص:9]، وإِنَّما ذكر الآية المتضمِّنة لقضيَّة مريم؛ لكونها مذكورةً مع آسية، وليس مقصودَه مِنَ الترجمة إلَّا ذكرُ آسية.