عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله ╡ : {وهل أتاك حديث موسى,إذ رأى نارًا}
  
              

          ░22▒ (ص) باب قَوْلِ اللهِ ╡ : {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى. إِذْ رَأَى نَارًا} إِلَى قَوْلِهِ: {بِالوَادِي المُقَدَّسِ طُوًى}[طه:9-12].
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذكَر فيه قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى}.
          قوله: ({وَهَلْ أَتَاكَ}) أي: قد أتاك؛ لأنَّ {هَلْ} هنا لا يليق أن تكون للاستفهام؛ لأنَّه لا يجوز على الله.
          قوله: ({إِذْ رَأَى}) أي: حين رأى، وعن وَهْب: استأذن موسى شُعَيبًا في الرجوع إلى أمِّه، فخرج إلى أهله، فوُلِدَ له في الطريق ابنٌ في ليلةٍ شاتيةٍ مُظلمةٍ مُثلِجةٍ، فحاد موسى عنِ الطريق، وقَدَح النار، فلم تُورِ المِقدَحَةُ شيئًا، فبينا هو في مزاولة ذلك؛ أبصر نارًا مِن بعيدٍ عن يسار الطريق، قيل: كانت ليلةَ الجمعة.
          ({فَقَالَ}) موسى ({لِأَهْلِهِ امْكُثُوا}) مكانَكم، ({إِنِّي آنَسْتُ}) أي: أبصرتُ ({نارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا}) أي: مِنَ النار ({بِقَبَسٍ}) بشُعلةٍ، (القَبَس) النارُ المقتبسَةُ في رأس عودٍ أو فتيلةٍ أو غيرِهما.
          قوله: ({أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}) يعني: مَن يدلُّني على الطريق، أو ينفعُني بهُداه في أبواب الدِّين.
          قوله: ({فَلَمَّا أَتَاهَا}) أي: فلمَّا / أتى موسى النارَ؛ رأى شجرةً خضراءَ مِن أسفلها إلى أعلاها؛ كأنَّها نارٌ بيضاءُ تتَّقدُ، وسمِعَ تسبيحَ الملائكة، ورأى نورًا عظيمًا، فخاف، فأُلْقِيَتْ عليه السكينةُ.
          ({نُودِيَ يَا مُوسَى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ}) قيل: سببُ أمرِه بخلع نَعْلَيه أنَّهما كانتا مِن جلد حمارٍ ميتٍ غيرِ مدبوغٍ، فخلع موسى نعلَيه، وألقاهما مِن وراء الوادي.
          قوله: ({إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ}) أي: المطهَّر، ({طُوًى}) اسمُ وادٍ، قرأ ابنُ كثيرٍ ونافعٌ وأبو عَمْرٍو بغير تنوينٍ غيرَ منصرفٍ بتأويل البُقعة، والباقون بالتنوين مُنصرِفًا بتأويل المكان، وقيل: المقدَّس طوًى طوًى، مَرَّتينِ؛ أي: قُدِّس مَرَّتينِ، وقيل: نُوديَ نِداءَين.
          (ص) {آنَسْتُ} أبْصَرْتُ.
          (ش) يعني: معنى ({آنَسْتُ}) : (أبْصَرْتُ) مِنَ الإيناس؛ وهو الإبصارُ البيِّنُ الذي لا شُبهةَ فيه، ومنه: إنسانُ العين؛ لأنَّه يُتَبَيَّنُ به الشيءُ، و(الإنس) لظهورهم، وقيل: (الإيناس) إبصارُ ما يُؤْنَسُ به.
          (ص) قَالَ ابنُ عَبَّاس ☻: المُقَدَّسُ المُبَارَكُ.
          (ش) وقع هذا مِن قول ابن عَبَّاس _إلى آخِرِ ما ذكره مِن تفسير الألفاظ المذكورة_ في رواية أبي ذرٍّ عنِ المُسْتَمْلِي والكُشْميهَنيِّ خاصَّةً، ولم يذكرْه جميع رواة البُخَاريِّ هنا، وإِنَّما ذكروا بعضَه في (تفسير سورة طه)، وقال الكَرْمَانِيُّ: وذِكْرُ أمثالِ هذا في هذا الكتاب العظيمِ الشأنِ اشتغالٌ بما لا يعنيه.
          وقولُ ابن عَبَّاس وصله ابن أبي حاتمٍ مِن طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه.
          (ص) {طُوًى} اسْمُ الوَادِي.
          (ش) وقد ذكرناه، وروى الطَّبَريُّ مِن وجهٍ آخرَ عن ابن عَبَّاسٍ: أنَّهُ سُمِّي {طوًى}؛ لأنَّ موسى ◙ طواه ليلًا.
          (ص) {سِيرَتَها} حالَتَهَا.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى}[طه:21]، وفسَّر السيرةَ (الحَالَةِ)، وهكذا رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، وعن مجاهدٍ وقتادةَ: {سِيرَتَهَا}: هيئتها.
          (ص) وَ{النُّهَى} التُّقَى.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى}[طه:54]، وفسَّر ({النُّهَى}) : بـ(التُّقَى) ؛ كذا رواه الطَّبَريُّ مِن طريق عليِّ بن أبي طلحةَ عن ابن عَبَّاسٍ في قوله: {لأُولِي النُّهَى}، قال: لأولي التقى، وعن قتادة: لأولي الوَرَع، وقال الطَّبَريُّ: خُصَّ أُولي النُّهى؛ لأنَّهم أهلُ التفكُّر والاعتبار.
          (ص) {بِمَلْكِنا} بأمْرِنَا.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا}[طه:87]، وفسَّره بقوله: (بأمْرِنا)، وهكذا روى الطَّبَريُّ مِن طريق عليِّ بن أبي طلحة عنِ ابن عَبَّاسٍ، ومِن طريق سعيدٍ عن قتادة: {بِمَلْكِنَا} أي: بطاقَتِنا؛ وكذا قال السُّدِّيُّ.
          (ص) {هَوَى} شَقِي.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى}[طه:81]، وفسَّر ({هَوَى}) بلفظ (شَقِيَ)، وكلاهما ماضيانِ، وكذا رُويَ عنِ الطَّبَريِّ وابن أبي حاتمٍ.
          (ص) {فارِغًا} إلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى ◙ .
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا}[القصص:10]، ثُمَّ فسَّره بقوله: (إلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى ◙ ) يعني: لم يخلُ قلبُها عن ذكره.
          وهذا وصله سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِيُّ في «تفسير ابن عُيَينة» مِن طريق عِكْرِمَة عن ابن عَبَّاسٍ، ولفظه: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} مِن كلٍّ إلَّا مِن ذكرِ موسى، وكذا أخرجه الطَّبَريُّ مِن طريق سعيدِ بن جُبَيرٍ عن ابن عَبَّاسٍ، وقال أبو عُبيدٍ: {فارغًا} مِنَ الحزن؛ لعِلْمِها أنَّهُ لم يغرقْ.
          (ص) {رِدْءًا} كَيْ يُصَدِّقَنِي.
          (ش) أشار بقوله: ({رِدْءًا}) إلى ما في قوله تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي}[القصص:34]، ثُمَّ أشار إلى أنَّ التقديرَ في قوله: {يُصَدِّقُنِي} (كَيْ يُصَدِّقَنِي)، وروى الطَّبَريُّ مِن طريق السُّدِّيِّ: (كيما يصدِّقني)، ومِن طريق مجاهدٍ وقتادة: {رِدءًا} أي: عَونًا، وقال أبو عُبيدة: أي: مُعينًا، يقال: أردأتُ فلانًا على عدوِّه؛ أي: أكنفتُه وأعَنتُه، وصِرت له كَنَفًا.
          (ص) ويُقَالُ: مُغِيثًا أوْ مُعِينًا.
          (ش) أي: يقال في تفسير {رِدءًا}: (مُغِيثًا) بالغين المُعْجَمة والثاء المُثَلَّثة، مِنَ الإغاثة.
          قوله: (أَوْ مُعِينًا) أي: أو يُقال: مُعينًا؛ بالعين المُهْمَلة، مِنَ الإعانة؛ وهي المساعدة.
          (ص) يَبْطُشُ ويَبْطِشُ. /
          (ش) أشار به إلى أن لفظ (يَبْطُشُ) فيه لغتان؛ إحداهما: كسر الطاء، والأخرى: ضمُّها، وهو في قوله: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا}[القصص:19]، والكسرُ هي القراءةُ المشهورةُ هنا وفي قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى}[الدخان:16]، والضمُّ قراءةُ الحسن وأبي جعفرٍ.
          (ص) {يأتَمِرُونَ} يَتَشَاوَرُونَ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {إِنَّ المَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ}[القصص:20]، وفسَّره بقوله: (يَتَشَاوَرُونَ)، وكذا فسَّره أبو عبيدةَ، وقال ابنُ قُتيبة: معناه: يأمر بعضُهم بعضًا.
          (ص) والجَذْوَةُ: قِطْعَةٌ غَلِيظَةٌ مِنَ الخَشَبِ، لَيْسَ فِيهَا لَهَبٌ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ}[القصص:29]، ثُمَّ فسَّرها بما ذكر أبو عبيدة.
          و(الجَذْوَةُ) مُثَلَّثةُ الجيم.
          (ص) {سَنَشُدُّ} سَنُعِينُكَ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ}[القصص:35]، وفسَّره بقوله: (سَنُعِينُكَ)، وفسَّره أبو عُبيدةَ بقوله: سنقوِّيك به ونُعينُك، يقال: شدَّ فلانٌ عَضُدَ فلان؛ إذا أعانه.
          (ص) كُلَّمَا عَزَّزتَ شَيْئًا؛ فَقَدْ جَعَلْتَ لَهُ عَضُدًا.
          (ش) هذا مِن بقيَّة تفسير: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ}، وهو ظاهرٌ.
          (ص) وقال غَيْرُهُ: كُلَّمَا لَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ أوْ فِيهِ تَمْتَمَةٌ أوْ فأفَأةٌ؛ فَهْيَ {عُقْدَة}.
          (ش) أشار بهذا إلى تفسير ({عُقْدَة}) في قوله تعالى: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي}[طه:25-27].
          روى الطَّبَريُّ بإسناده مِن طريق السُّدِّيِّ قال: لمَّا تحرَّك موسى؛ أخذتْه آسيةُ امرأةُ فرعونَ تُرَقِّصُهُ، ثُمَّ ناولتْهُ لفرعونَ، فأخذ موسى بلِحيتِه، فنتفها، فاستدعى فرعونُ الذبَّاحين، فقالت آسيةُ: إنَّهُ صبيٌّ لا يعقل، فوضعت له جمرًا وياقوتًا، وقالت: إنْ أخذَ الياقوتَ؛ فاذبحه، وإن أخذَ الجمرَ؛ فاعرفْ أنَّهُ لا يعقل، فجاء جبريل ◙ ، فطرح في يدِه جمرةً، فطرحها في فيه، فأحرقَت لسانَه، فصارت في لسانه عُقدةٌ مِن يومئذٍ، وقيل: لمَّا وضع فرعونُ موسى في حِجره؛ تناول لِحيتَه، ومدَّها، ونتف منها، وكانت لحيتُه طويلةً سبعةَ أشبارٍ، وكان هو قصيرًا، ويُقَال: لطمَ وجهَه، وكان يلعبُ بين يديه، ويقال: كان بيده قضيبٌ صغيرٌ يلعبُ به، فضربَ به رأسَه، فعند ذلك غضِب غضبًا شديدًا، وتطيَّر منه، وقال: هذا عدوِّيَ المطلوبُ، ثُمَّ جرى ما ذكرنا.
          فَإِنْ قُلْتَ: كيف لم تُحرِقْهُ النارُ يومَ التنُّور التي أُلْقِي فيها، وأحرقت لسانَه في هذا اليوم؟
          قُلْت: لأنَّه قال يومًا لفرعونَ: يا بابا، فعُوقِبَ لسانُه، ولم تُعاقَبْ يدُه؛ لأنَّها مدَّت لحيةَ فرعون؛ ولهذا ظهرتِ المعجزةُ في اليد دون اللسان، {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}[طه:22]، وقيل: لم يحترقْ في التنُّور؛ ليدومَ له الأُنسُ بينه وبين النار ليلةَ التكليم، وقيل: إِنَّما لم تحترقْ يدُه؛ ليجاهدَ بها فرعونَ بحمل العصا.
          قوله: (تَمْتَمَةٌ) هي التردُّد في النُّطق، بالتاء المُثَنَّاة مِن فوقُ.
          قوله: (أَوْ فَأْفَأْةٌ) هي التردُّد في النُّطق، بالفاء.
          (ص) {أَزْرِي} ظَهْرِي.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}[طه:31] وفسَّر (الأَزْر) بـ(الظَّهْر)، وكذا روى الطَّبَريُّ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ.
          (ص) {فَيُسْحِتَكُمْ} فَيُهْلِكَكُمْ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}[طه:61] وفسَّر ({يُسْحِتَكُمْ}) بقوله: (يُهْلِكَكُم)، وهكذا روى الطَّبَريُّ عن ابن عَبَّاسٍ، وقال أبو عبيدةَ: سحت وأسحت بمعنًى، وقال الطَّبَريُّ: «سحت» أكثرُ مِن «أسحت».
          (ص) {المُثْلَى} تأنِيثُ الأمْثَلِ، تَقُولُ: بِدِينِكُمْ، يُقالُ: خُذِ {المُثْلَى}، خُذِ الأمْثَلَ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَى}[طه:63] و(مُثْلَى) على وزن (فُعْلَى) (تَأْنِيثُ الأَمْثَلِ).
          قوله: (تَقُولُ: بِدِينِكُمْ) تفسيرٌ لقوله: {بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَى} يعني: يريدُ موسى وهارونَ أن يَذْهَبَا بدينكم المستقيم، وقيل: بسُنَّتكم ودينكم وما أنتم عليه، وقيل: أرادوا أهل طريقتكم المثلى، وهم بنو إسرائيل؛ لقول موسى: {أَرْسِلْ مَعنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}، وقيل: «الطريقة» اسمٌ لوجوهِ الناس وأشرافِهم الذين هم قدوةٌ لغيرهم، فيقال: هم طريقةُ قومِهم، وقال الشَّعبيُّ: معناه: ويصرفا وجوهَ الناس إليهما، وقال الزجَّاج: يعني {المُثْلَى} و«الأمثل»: ذو الفضل / الذي به يستحقُّ أن يُقالَ: هذا أمثلُ قومِه.
          (ص) {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا}.
          (ش) أشارَ به إلى ما في قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ اليَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى}[طه:64] الخطابُ لقومِ فرعون مِنَ السحرة؛ يعني: ائْتُوا جميعًا، وقيل: صُفوفًا؛ لأنَّه أهيبُ في صدور الرائين، رُويَ: أنَّ السحرةَ كانوا سبعين ألفًا، مع كلِّ واحدٍ منهم حبلٌ وعصًا، وقد أقبلوا إقبالةً واحدةً.
          (ص) وَيُقالُ: هَلْ أتَيْتَ الصَّفَّ اليَوْمَ؟ يَعْنِي: المُصَلَّى الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ.
          (ش) قائلُ هذا التفسيرِ أبو عُبيدة، فَإِنَّهُ قال: المراد مِن قوله: {صَفًّا} يعني: المصلَّى والمجتمَع، وعن بعض العَرَب الفُصَحاء: ما استطعتُ أن آتيَ الصفَّ أمسِ؛ يعني: المصلَّى، ووجهُ صحَّته: أن يُجعَل {صَفًّا} عَلَمًا لمصلًّى بعينه، فأُمِرُوا بأن يأتوه، أو يُرَاد: ائْتُوا مصلًّى مِنَ المصلَّياتِ.
          (ص) {فأوْجَسَ} أَضْمَرَ خَوْفًا، فَذَهَبَتِ الوَاوُ مِنْ {خِيفَةِ}؛ لِكَسْرَةِ الخَاءِ.
           (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً}[طه:67]، وفسَّر ({أَوْجَسَ}) بقوله: (أَضْمَرَ خَوْفًا).
          قوله: (فَذَهَبَتِ الوَاوُ مِنْ {خِيفَةِ}؛ لِكَسْرَةِ الخَاءِ) قُلْت: اصطلاحُ أهلِ التصريف أن يقال: أصل {خِيفَة} خِوْفة، فقلبت الواوُ ياءً؛ لسكونها وانكسارِ ما قبلها.
          (ص) {في جُذُوعِ النَّخْلِ} علَى جُذُوعِ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}[طه:71[وأشار بقوله: (عَلَى جُذُوعِ) أنَّ كلمةَ {فِي} في قوله: ({فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}) ] بمعنى: (على) للاستعلاء، وقال:
هُمُ صَلَبُوا العَبْدِيَّ في جِذْعِ نَخْلَةٍ
          (ص) {خَطْبُكَ} بالُكَ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ}[طه:95]، وفسَّر ({خَطْبُكَ}) بقوله: (بَالُكَ).
          وقصَّتُهُ مشهورةٌ؛ وملخَّصُها: أنَّ موسى ◙ أقبل على السامريِّ _واسمه موسى بن ظفر_ الذي {أَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالَ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى}[طه:88] قال له: {مَا خَطْبُكَ}؟ أي: ما شأنك وحالُك الذي دعاك وحملك على ما صنعتَ؟
          (ص) {مِساسَ} مَصْدَرُ ماسَّه مِساسًا.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ}[طه:97] أي: قال موسى للسامريِّ: فاذهب مِن بيننا {فَإِنَّ لَكَ فِي الحَيَاةِ} أي: ما دمتَ حيًّا {أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ} أي: لا أَمَسُّ ولا أُمَسُّ، وهو مصدرُ ماسَّه يُماسُّه مَماسَّة ومِسَاسًا، فعاقبه الله في الدنيا بالعقوبة التي لا شيءَ أشدَّ منها ولا أوحشَ؛ وذلك أنَّهُ مُنِعَ مِن مخالطة الناس منعًا كُلِّيًّا، وحُرِّمَ عليهم ملاقاتُه، ومكالمتُه، ومبايعتُه، ومواجهتُه، وإذا اتَّفق أن يماسَّ أحدًا؛ رجلًا أو امرأةً؛ حُمَّ الماسُّ والممسوسُ، فتحامى الناسَ وتحامَوه، وكان يصيحُ: لَا مِسَاسَ، وعن قتادة: أنَّ بقاياهمُ اليومَ يقولون: لَا مِسَاسَ.
          (ص) {لَنَنْسِفَنَّهُ} لَنُذْرِيَنَّهُ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْفًا}[طه:97]، وفسَّر قوله: ({لَنَنْسِفَنَّهُ}) بقوله: (لَنُذْرِيَنَّهُ) مِنَ التَّذرية {فِي اليَمِّ}، حُكِيَ: أنَّ موسى ◙ أخذَ العِجْلَ، فذبحه، فسال منه الدم؛ لأنَّه كان قد صار لحمًا ودمًا، ثُمَّ أحرقه بالنار، وذراه في اليمِّ.
          (ص) الضُّحى: الحَرُّ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى}[طه:119]، وفسَّر (الضُّحَى) بـ(الحَرِّ)، قال المفسِّرون: هذا خطابٌ لآدم ◙ .
          ومعنى {لَا تَظْمَأُ}) لا تعطش {فِيهَا}؛ أي: في الجنَّة {وَلَا تَضْحَى}؛ أي: ولا تشرقُ الشمس، فيؤذيك حرُّها، وقيل: لا يصيبك حرُّ الشمس؛ إذ ليس فيها شمسٌ.
          وذِكْرُ هذا هنا غيرُ مناسبٍ؛ لأنَّه في قضيَّة آدمَ ◙ ، ولا تعلُّقَ له بقصَّةِ موسى ◙ .
          (ص) {قُصِّيهِ} اتَّبِعِي أثَرَهُ، وقَدْ يَكُونُ أنْ تَقُصَّ الكَلَامَ {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ}.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ}[القصص:11] وفسَّر ({قُصِّيهِ}) بقوله: (اتَّبِعِي أثَرَهُ)، هكذا فسَّره أهلُ التفسير، ويقال: معناه: استعلِمي خبرَه، وهو خطابٌ لأخت موسى ◙ مِن أمِّها، واسم أخته مريمُ بنت عِمْرَان، وافَقَها في ذلك مريمُ بنت عِمْرَان أمُّ عيسى ◙ .
          قوله: (وَقَدْ يَكُونُ...) إلى آخره: مِن جهة البُخَاريِّ؛ أي: قد يكونُ معنى (القصِّ) مِن قصَّ الكلامَ؛ كما في قوله تعالى: ({نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ}) {أَحْسَنَ القَصَصِ}[يوسف:3].
          (ص) {عنْ جُنُبٍ} عنْ بُعْد.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ / وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}[القصص:11]، وفسَّر قولَه: ({عَنْ جُنُبٍ}) بقوله: (عَنْ بُعْدٍ) ؛ أي: بصُرَتْ أختُ موسى بموسى عن بُعْدٍ، والحال أنَّ قومَ فرعون لا يعلَمون بها.
          (ص) وعَنْ جنابَةٍ و[عَنِ] اجْتِنابٍ واحِدٌ.
          (ش) أشار به إلى أنَّ معنى {جُنُبٍ} (وعَنْ جنابَةٍ وَعَنِ اجْتِنابٍ واحِدٌ)، فيقال: ما يأتينا إلَّا عن جنابةٍ واجتنابٍ، وأصلُ معنى هذه المادَّة يدلُّ على البُعْد، ومنه سُمِّيَ (الجُنُبُ) ؛ لبُعْدِه عنِ الصلاة وعن قراءة القرآن.
          (ص) وَقَالَ مُجاهِدٌ: {عَلى قَدَرٍ}: عَلى مَوْعِدٍ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى}[طه:40].
          وفسَّر قوله: ({عَلَى قَدَرٍ}) بقوله: (عَلى مَوْعِدٍ)، وقيل: {عَلَى قَدَرٍ}؛ أي: جئتَ لميقاتٍ قدَّرتُه لمجيئك قبل خَلقِك، وكان موسى ◙ مَكَث عند شُعَيْب ◙ في مدْيَنَ ثمانيًا وعشرين سنةً؛ عَشْر سنين منها مَهْر امرأته صَفوراء بنت شُعَيْب، ثُمَّ أقام بعده ثماني عشْرةَ سنةً عندَه، حَتَّى وُلِدَ له في مَدْيَن، ثُمَّ جاء عَلَى قَدَرٍ.
          (ص) {لَا تَنِيَا} لَا تَضْعُفَا.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي. اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى}[طه:42]، وفسَّر قوله تعالى: ({لَا تَنِيَا}) بقوله: (لَا تَضْعُفَا) يعني: لا تفتُرَا، مِن ونى يني وَنْيًا؛ وهو الضَّعفُ والفتورُ، والخطابُ فيه لموسى وهارونَ.
          (ص) {مَكانًا سِوًى} مَنْصَفٌ بَيْنَهُمْ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سِوًى}[طه:58]، وفسَّرَ قوله: ({مَكَانًا سِوًى}) [بقوله]: (مَنْصَفٌ بَيْنَهُمْ)، قرأ ابنُ عامرٍ وعاصمٌ وحمزةُ بِضَمِّ السين، والباقون بكسرها، قيل: معناه: سويًّا لا ساترَ فيه، وقيل: مكانًا عَدْلًا بيننا وبينك، وعنِ ابنِ عَبَّاسٍ مثل ما فسَّره بقوله: (مَنْصَفٌ بَيْنَهُمْ) أي: بين الفريقين؛ أي: تستوي مسافتُه بين الفريقين، فتكون مسافةُ كلِّ فريقٍ إليه كمسافة الفريقِ الآخَرِ.
          (ص) {يَبَسًا} يابِسًا.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي البَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى}[طه:77]، وفسَّر قوله: ({يَبَسًا})، بقوله: (يَابِسًا)، وفي «تفسير النَّسَفِيِّ»: «يَبَسًا» مصدرٌ وُصِفَ به، يقال: يَبِسَ يُبْسًا ويَبَسًا، ونحوهما: العُدْم والعَدَم، ومِن ثَمَّ وُصِفَ به المؤنَّثُ، فقيل: شاتُنَا يَبَسٌ، وناقتُنَا يَبَسٌ؛ إذا جفَّ لبنُها.
          (ص) {مِنْ زِينَةِ القَوْمِ} الحُلِيِّ الَّذِي استَعَارُوا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ.
          أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ القَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ}[طه:87]، وروى الطَّبَريُّ مِن طريق ابن زيدٍ قال: «الأوزار» الأثقال؛ وهو (الحُلِيُّ الَّذِي استَعَارُوا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ)، وليس المراد بها الذنوب، وفي «تفسير النَّسَفِيِّ»: وقيل: آثامًا؛ أي: حُمِّلْنَا آثامًا مِن حُلِيِّ القوم؛ لأنَّهم استعاروه ليتزيَّنوا في عيدٍ كان لهم، ثُمَّ لم يردُّوها عليهم عند خروجهم مِن مِصْرَ؛ مخافةَ أن يعلموا بخروجهم، فحملوها.
          (ص) {فَقذَفْتُهَا} ألْقَيْتُهَا، {ألْقَى} صَنَعَ.
          (ش) فسَّر ({فَقذَفْتُهَا}) بقوله: (أَلْقَيْتُهَا)، وفي رواية الكُشْميهَنيِّ: <فقذفناها>، والقرآن: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ القَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ}[طه:87].
          قوله: ({ألْقَى}) أي: السامريُّ؛ يعني: ألقى ما كان معه مِنَ الحليِّ، وقيل: ما كان معه مِن ترابِ حافرِ فرسِ جبريل ◙ .
          وأراد بقوله: (صَنَعَ) {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ}.
          (ص) {فنَسِيَ} مُوسَى، هُمْ يَقُولُونَ: أخْطَأَ الرَّبُّ، {ألَّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا} في العِجْلِ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ. أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}[طه:88-89].
          قوله: {فقالوا}؛ أي: السامريُّ ومَن وافقه.
          قوله: ({فنَسِيَ} مُوسَى) أي: أن يُخبِرَكم أنَّ هذا إلهُه، وقيل: فَنَسِيَ موسى الطريقَ إلى ربِّه، وقيل: فَنَسِيَ موسى إلهَه عندكم، وخالفه في طريقٍ آخرَ.
          قوله: (هُمْ يَقُولُونَ) أي: السامريُّ ومَن معه يقولون: أخطأ موسى الربُّ؛ حيث تركه هنا، وذهب إلى الطُّورِ يطلبُه.
          قوله: ({ألَّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قولًا}) في العِجْل؛ أي: أنَّهُ لا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قولًا في العجل.