عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {وإلى ثمود أخاهم صالحًا}
  
              

          ░17▒ (ص) باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}.
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذكَر فيه بيانُ قولِ الله تَعَالَى: ({وَإِلَى ثَمُودَ}) أي: أرسلنا إلى ثمودَ ({أَخَاهُمْ صَالِحًا}[الأعراف:73])، وإِنَّما قال: {أخاهُم}؛ لأنَّ صالحًا ◙ مِن قبيلتهم.
          واختلفوا في (ثمود) ؛ فقال الجَوْهَريُّ: ثمود قبيلةٌ مِنَ العرب الأولى، وهم قوم صالحٍ، وكذلك قال الفَرَّاء: سُمِّيت بذلك؛ لقلَّة مائهم، وقال الزجَّاج: «الثَّمد» الماءُ القليلُ الذي لا مادَّة له، وقيل: ثمود: اسمُ رجلٍ، وقال عِكْرِمَةُ: هو ثمود بن جابر بن إرَم بن سام بن نوح، وقال الكلبيُّ: وكانت هذه القبيلةُ تنزل في وادي القُرى إلى البحر والسواحل وأطراف الشام، وكانت أعمارُهم طويلةً، وكانوا يبنون المساكن فتنهدم، فلمَّا طال ذلك عليهم؛ اتَّخذوا مِنَ الجبال بيوتًا ينحِتونها، وعمِلوها على هيئة الدور، ويُقَال: كانت منازلهم أوَّلًا بأرض كوش مِن بلاد عالج، ثُمَّ انتقلوا إلى الحِجْر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، وخالفوا أمر الله، وعبَدوا غيره، وأفسدوا في الأرض، فبعث الله إليهم صالحًا نبيَّهم، فدعاهم إلى الله تعالى حَتَّى شمِط، ولم يتَّبعْه منهم إلَّا قليلٌ مُسْتَضْعَفون.
          و(صالحٌ) هو ابن عبيد بن جابر بن إرَم بن سام بن نوح ◙ ، وقيل: صالح بن عبيد بن أنيف بن ماشخ بن جادر بن جاثر بن ثمود، قاله مقاتل، وقيل: صالح بن كانوه، قاله الربيع، وقيل: صالح بن عبيد بن يوسف بن شالخ بن عبيد بن جاثر بن ثمود، قاله مجاهد.
          قال مجاهد: كان بينه وبين ثمود مئةُ سنةٍ، وكان في قومه بقايا مِن قوم عادٍ على طولهم وهَيئَتهم، وكان لهم صنمٌ مِن حديدٍ، يدخل فيه الشيطانُ في السَّنة مَرَّةً واحدةً، ويكلِّمهم، وكان أبو صالح سادِنَه، فغار لله، وهمَّ بكسره، فناداهمُ الصنم: اقتلوا كانوه، فقتلوه، ورمَوه في مفازةٍ، فبكت عليه امرأتُه، فجاءها ملَكٌ، فقال: إنَّ زوجك في المفازة الفلانيَّة، فجاءت إليه وهو ميتٌ، فأحياه الله تعالى، فقام إليها، فوطِئَها في الحال، فعَلِقت بصالحٍ مِن ساعتها، وعاد كانوه ميتًا بإذن الله تعالى، ولمَّا شبَّ صالحٌ؛ بعثه الله إلى قومه وعمرُه قبل البلوغ، ولكنَّه قد راهق، قاله وَهْبٌ، وقال ابن عَبَّاس: لمَّا تمَّ له أربعون سنةً؛ أرسله إليهم، وذكره الله تعالى في القرآن في خمسة مواضع، وبيَّن قصَّته مع قومه، فلمَّا أهلك الله قومَه؛ نزل صالحٌ بفلسطين، وأقام بالرَّملة، وقال السُّدِّيُّ: أتى هو ومَن معه مِنَ المؤمنين إلى مكَّة، فأقاموا يتعبَّدون حَتَّى ماتوا، فقبورُهم غربيَّ الكعبة بين دار النَّدوة والحِجْر، وقال ابن قُتيبة: أقام صالحٌ في قومه عشرين سنةً، ومات وهو ابنُ مئةٍ وثمانٍ وخمسين سنةً، وقيل: ابن ثلاث مئةٍ وستٍّ وثلاثين سنةً، وحكاه الخطيبُ عنِ ابنِ عَبَّاس، وهو الأظهر، ويقال: إنَّ صالحًا مات باليَمَن، وقبرُه بموضعٍ يُقال له: الشَّبُّوه، وذكر العزيزيُّ: أنَّ صالحًا خرج مع المؤمنين إلى الشام، فسكنوا فلسطين، ومات بها، وكان بين صالح وبين هود مئةُ سنةٍ، وبين صالحٍ وإبراهيمَ ستُّ مئة سنةٍ وثلاثون سنةً.
          (ص) {كَذَّبَ أصْحَابُ الحِجْرِ}[الحجر:80] الحِجْرُ مَوْضِعُ ثَمُودَ، وأَمَّا حَرْثٌ حِجْرٌ حَرَامٌ، وكلُّ مَمْنُوعٍ؛ فَهْوَ حِجْرٌ مَحْجُورٌ، وَالحِجْرُ كُلُّ بِناءٍ بَنَيْتَهُ، ومَا حَجَرْتَ عَلَيْهِ مِنَ الأَرْضِ؛ فَهُوَ حِجْرٌ، ومِنْهُ سُمِّيَ حَطِيمُ البَيْتِ حِجْرًا، كأنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَحْطُومِ؛ مِثْلُ: قَتِيلٍ، مِنَ مَقْتُولٍ، ويُقال لِلأُنْثَى مِنَ الخَيْلِ: الحِجْرُ، ويُقالُ لِلْعَقْلِ: حِجْرٌ وحِجًى، وأَمَّا حَجْرُ اليَمامَةِ؛ فَهْوَ مَنْزِلٌ.
          (ش) قوله: ({كَذَّبَ أصْحَابُ الحِجْرِ}) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ المُرْسَلِينَ}[الحجر:80]، وفسَّر (الحِجْرَ) بقوله: (مَوْضِعُ ثَمُودَ)، وهو ما بين المدينة والشام، وأراد بـ{المُرْسَلِينَ} صالحًا، وهو وإن كان واحدًا؛ فالمراد هو ومَن معه مِنَ المؤمنين؛ كما قالوا: (الخُبَيبُون) في ابن الزُّبَير وأصحابه، وقيل: كلُّ مَن كذَّب واحدًا مِنَ الرسل؛ فكأنَّما كذَّبهم جميعًا.
          قوله: (وَأَمَّا حَرْثٌ حِجْرٌ؛ حَرَامٌ) أشار به إلى / ما في قوله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ}[الأنعام:138]، وفسَّر (الحِجْرَ) بقوله: (حرامٌ)، وكذا فسَّره أبو عبيدة، وحَذَف البُخَاريُّ الفاء عَنْ جواب (أَمَّا)، وهو قوله: (حرام)، وهو جائزٌ.
          وقوله: (وَكُلُّ مَمْنُوعٍ؛ فَهْوَ حِجْرٌ مَحْجُورٌ) ؛ أي: كلُّ شيءٍ يُمنَعُ؛ فهو حِجْرٌ؛ أي: حرامٌ.
          قوله: (وَمِنْهُ: حِجْرٌ مَحْجُورٌ) إشارة إلى ما في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا}[الفرقان:22]، وقال أبو عبيدة: أي: حرامًا محرَّمًا.
          قوله: (وَالحِجْرُ: كُلُّ بِناءٍ بَنَيْتَهُ) بتاء الخطاب في آخِرِه، ويُروَى: <تَبنيهِ> بتاء الخطاب في أوَّله.
          قوله: (فَهُوَ حِجْرٌ) إِنَّما دخلتِ الفاء فيه؛ لأنَّ قولَه: (ومَا حَجَرْتَ عَلَيْهِ) يتضمَّن معنى الشرط.
          قوله: (ومِنْهُ سُمِّيَ الحَطِيمُ) أي: ومِن قَبيل هذه المادَّة سُمِّيَ حطيمُ البيت؛ أي: الكعبة (حِجْرًا)، وهو الحائطُ المستديرُ إلى جانب الكعبة.
          قوله: (كأنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَحْطُومٍ؛ مِثْلُ: قَتِيلٍ مِنَ مَقْتُولٍ) أراد: أنَّ (الحطيمَ) بمعنى: المحطوم؛ كما أنَّ (القتيل) بمعنى: المقتول؛ يعني: (فعيل)، ولكنَّه بمعنى: (المفعول)، وليس فيه اشتقاقٌ اصطلاحيٌّ، ومعنى (محطوم) : مكسورٌ، وكأنَّ الحطيمَ سُمِّيَ به؛ لأنَّه كان في الأصل داخلَ الكعبة، فانكسر بإخراجِه عنها.
          قوله: (ويُقال لِلأُنْثَى مِنَ الخَيْلِ: الحِجْرُ) ويُجمَعُ على (حُجورة).
          قوله: (ويُقالُ لِلْعَقْلِ: حِجْرٌ) كما في قوله تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}[الفجر:5] أي: لذي عَقْلٍ؛ لأنَّه يمنعُ صاحبَه مِنَ الوقوع في المَهالك.
          قوله: (وَحِجًى) بكسر الحاء وفتح الجيم، مقصورٌ، وهو أيضًا مِن أسماء العقل، ومنه: الحِجى؛ بمعنى: السَّتر، وفي الحديث: «مَن بات على ظَهْر بيتٍ ليس عليه حِجًى؛ فقد برئتْ منه الذمَّةُ» شبَّهه بالحِجى العقل؛ لأنَّ العقلَ يمنع الإنسان مِنَ الفساد، ويحفظه مِنَ التعرُّض للهلاك؛ فكذلك السَّتر الذي على السَّطح يمنع الإنسانَ مِنَ التردِّي والسقوط.
          قوله: (وأَمَّا حَجْرُ اليَمامَةِ؛ فَهْوَ مَنْزِلٌ) يعني: أَمَّا حَجر اليمامة؛ بفتح الحاء؛ فهو اسمُ منزلِ ثمود بناحية الشام عند وادي القُرى، وهذا ليس له تعلُّقٌ بما قبله مِنَ الألفاظ الستَّة، ولكنَّه ذكره استطرادًا.
          ومِن مكسور الحاء _غير ما ذكره_: (حِجْرُ القميص) وفيه جاء الكسر، والفتحُ أفصحُ؛ ومنه: (حِجْر الإنسان) قال ابنُ فارس: فيه لغتان، ويجمع على (حُجور)، وجاء في (الحَُِجر) الذي بمعنى: (الحرام) الكسرُ والضمُّ والفتحُ، وقال الجَوْهَريُّ: الكسر أفصح، و(الحَجَر) بفتحتين معروفٌ، وهو اسمُ رجلٍ أيضًا، ومنه أَوسُ بن حَجَرٍ الشاعر، و(الحَجْر) بفتح الحاء وسكون الجيم: مصدر حَجَر القاضي عليه؛ إذا مَنَعه مِنَ التصرُّف في ماله، و(حُجْرٌ) بِضَمِّ الحاء وسكون الجيم: نَبتٌ مُرٌّ، واسم رجلٍ أيضًا؛ وهو حُجْر الكنديُّ الذي يُقَال له: آكِلُ المُرار، وحُجْر بن عَدِيٍّ الذي يُقَال له: الأدبر.
          واعلم أنَّ في بعض النُّسَخ وقع هذا البابُ عَقيبَ قوله: (باب قول الله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}[الأعراف:73])، وقال بعضُهم: والصوابُ إثباتُه هنا؛ يعني: عَقيب قوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}، ثُمَّ أيَّد كلامه بما حكاه أبو الوليد الباجيُّ عن أبي ذرٍّ الهَرَويِّ: أنَّ نسخةَ الأصل مِن «البُخَاريِّ» كانت ورقًا غيرَ محبوكٍ، فربَّما وُجِدَت الورقةُ في غيرِ موضعها، فنُسِخَت على ما وُجِدَت، فوقع في بعض التراجمِ إشكالٌ بحَسَب ذلك، وإلَّا؛ فقد وقع في القرآن ما يدلُّ على أنَّ ثمودَ كانوا بعد عادٍ؛ كما أنَّ عادًا بعد قوم نوحٍ ◙ .
          قُلْت: الاعتمادُ على هذا الكلام مِمَّا يستلزم سوءَ الترتيب بين الأبواب، وعدمَ المطابقة بين الأحاديث والتراجم، معَ الاعتناء الشديد في كتب «البُخَاريِّ» على ترتيب ما وَضَعه المصنِّف في تلك الأيَّام، ولا يستلزم وقوعُ قصَّة ثمودَ بعد قصَّة عادٍ في القرآن لزومَ رعاية الترتيب فيه.