عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم}
  
              

          ░52▒ (ص) بابٌ {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكَهْفِ وَالرَّقِيمِ}.
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذكَر فيه قولُه تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ...} إلى آخره[الكهف:9]، ولم يذكر في هذا الباب إلَّا تفسير بعضِ ما وقع في قصَّة أصحاب الكهف، وليس في رواية أبي ذرٍّ عن المُسْتَمْلِي والكُشْميهَنيِّ لفظُ: <باب>، وليس في رواية النَّسَفِيِّ لا <باب> ولا غيره مِنَ الترجمة، وهذا هو الصوابُ؛ لأنَّ الكتاب في الحديث، لا في التفسير.
          (ص) الكَهْفُ: الفَتْحُ فِي الجَبَلِ.
          (ش) هو قول الضحَّاك، أخرجه عنه ابنُ أبي حاتم.
          واختُلِفَ في مكان الكهف؛ فقيل: بين أيلة وفلسطين، وقيل: بالقرب مِن أيلة، وقيل: بأرضِ نَينوى، وقيل: بالبلقاء، والأخبارُ التي تكاثرت أنَّهُ ببلاد الروم، وهو الصحيح، فقيل: بالقرب مِن طَرَسوس، وقيل: بالقرب مِن أَبْلُسْتَين، وكان اسم مدينتهم أَفْسُوس؛ بالفاء، واسم ملِكِهم دقيانوس، وقال السُّهيليُّ: ومدينتُهم يقال: إنَّها على ستَّة فراسخ مِنَ القُسطنطينية، وكانت قصَّتهم قبل غَلَبة الروم على يونان، وأنَّهم سيحجُّون البيتَ إذا نزل عيسى ابن مريم ♂ ، وذكر ابن مردويه في «تفسيره» من حديث حَجَّاج بن أرطاة عنِ الحكم بن عُتَيْبة، عن مِقْسَم، عن ابن عَبَّاس ☻ مرفوعًا: «أصحابُ الكهف أعوانُ المهديِّ»، وذكر مقاتلٌ في / «تفسيره» اسم الكهف: مانجْلُوس.
          (ص) والرَّقِيمُ: الكِتابُ، مَرْقُومٌ: مَكْتُوبٌ، مِنَ الرَّقْمِ.
          (ش) أشار به إلى تفسير {الرَّقيمِ}، فالذي فسَّره منقولٌ عنِ ابنِ عَبَّاس ☻، رواه الطبريُّ من طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه.
          قوله: (مِنَ الرَّقْمِ) إشارةٌ إلى أنَّ اشتقاق (الرقيم) و(المرقوم) مِنَ (الرقم) ؛ وهو الكتابة، وفي (الرقيم) أقوالٌ أُخَرُ؛ فعن أبي عبيدة: الرقيم: الوادي الذي فيه الكهفُ، وعن كعب الأحبار: اسمُ القرية، رواه الطَّبَريُّ، وعن أنسٍ: أنَّ الرقيم اسمُ الكلب، رواه ابن أبي حاتم، وكذا رُوِيَ عن سعيد بن جُبَير، وقيل: الرقيم اسمُ الصخرة التي أطبقت على الوادي الذي فيه الكهفُ، وقيل: هو الغار، وعنِ ابنِ عَبَّاس: الرقيم: لوحٌ مِن رَصاص، كُتِبتْ فيه أسماءُ أصحاب الكهف لمَّا توجَّهوا عن قومهم، ولم يدروا أين توجَّهوا؟
          (ص) {رَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أَلْهَمْنَاهُمْ صَبْرًا.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[الكهف:14]، وفسر: ({رَبَطْنَا}) بقوله: (أَلْهَمْنَاهُمْ صَبْرًا)، وهكذا فسَّره أبو عُبيدة.
          (ص) {شَطَطًا} إِفْرَاطًا.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}[الكهف:14].
          قوله: ({شَطَطًا}) منصوبٌ على أنَّهُ صفة مصدر محذوف؛ تقديره: لقد قلنا إذًا قولًا شططًا؛ أي: ذا شَطَط؛ وهو الإفراط في الظلم والإبعاد، مِن شطَّ؛ إذا بعُد، وعن أبي عبيدة: {شَطَطًا} أي: جَورًا وغُلُوًّا.
          (ص) الوَصِيدُ: الفِنَاءُ، وَجَمْعُهُ: وَصَائِدُ وَوُصْدٌ، وَيُقَالُ: الوَصِيدُ البَابُ، {مُؤْصَدَةٌ} مُطْبَقَةٌ، آصَدَ البَابَ وَأَوْصَدَ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ}[الكهف:18]، وفسَّر (الوَصِيدُ) بقوله: (الفِنَاءُ) بكسر الفاء والمد، وهكذا فسَّره ابن عَبَّاس، وكذا رُوِيَ عن سعيد بن جُبَير، وقال الزَّمَخْشَريّ: {الوَصِيدُ} الفِناء، وقيل: العَتَبة، وقيل: الباب.
          قوله: (وَجَمْعُهُ) أي: وجمعُ (الوَصِيد) : (وَصَائِدُ وَوُصْدٌ) بِضَمِّ الواو وسكون الصاد، ويقال: الأصيد كالوَصيد، روى ابن جريرٍ عن أبي عَمْرو بن العلاء: أنَّ أهل اليمن وتِهامة يقولون: الوَصيد، وأهلَ نَجْدٍ يقولون: الأَصيد.
          قوله: ({مُؤْصَدَةٌ}) إشارة إلى ما في قوله تعالى: {نَارٌ مُؤْصَدَةٌ}[البلد:20]، وفسَّره بقوله: (مُطْبَقَةٌ)، وهذا ذكره استطرادًا؛ لأنَّه ليس في (سورة الكهف)، ولكنَّه لمَّا كان الاشتقاق بينهما مِن وادٍ واحدٍ؛ ذكره هنا، والذي فسَّره هو المنقولُ عن أبي عُبيدة.
          قوله: (آصَدَ البَابَ) أي: أغلقه، ويقال فيه: (أوصد) أيضًا؛ يعني: يقال بالثُّلاثيِّ وبالمزيد.
          (ص) {بَعَثْنَاهُمْ} أَحْيَيْنَاهُمْ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} الآية[الكهف:19]، وفسَّره بقوله: (أَحْيَيْنَاهُمْ)، وهكذا فسَّره أبو عُبيدة.
          (ص) {أَزْكَى} أَكْثَرُ رَيْعًا.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ}[الكهف:19]، وفسَّر ({أَزْكَى}) بقوله: (أَكْثَرُ رَيْعًا)، قال الزَّمَخْشَريُّ: {أيُّها} أي: أيُّ أهلِها؛ كما في قوله: {وَاسْأَلِ القَرْيَةَ}[يوسف:82]، {أَزْكَى طَعَامًا} أحلُّ وأطيب، أو أكثرُ وأرخص.
          (ص) فَضَرَبَ اللهُ عَلَى آذَانِهِمْ، فَنَامُوا.
          (ش) أشار به إلى تفسيرِ ما في قوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا}[الكهف:11]، وفي الحقيقة أخَذَ لازمَ القرآن، وفسَّره بلازمه؛ إذ ليس الذي ذكره لفظ القرآن، ولا ذلك معناه، وقال الزَّمَخْشَريُّ: أي: ضربنا عليها حجابًا مِن أن تسمع؛ يعني: أنمناهم إنامةً ثقيلةً لا تُنبِّهُهم فيها الأصواتُ.
          (ص) {رَجْمًا بِالغَيْبِ} لَمْ يَسْتَبِنْ.
          [(ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالغَيْبِ}[الكهف:22]، وفسَّر (الرَّجْمَ بِالغَيْبِ) بقوله: لم يستبِنْ]، وعن قتادة: معناه: قَذْفًا بالظنِّ، رواه عبد الرزَّاق عن مَعمَر عنه، وقال أبو عبيدة: الرجمُ: ما لم تستيقِنْه مِنَ الظنِّ.
          (ص) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {تَقْرِضُهُمْ} تَتْرُكُهُمْ.
          (ش) أي: (قَالَ مُجَاهِدٌ) في تفسير قوله تعالى: ({تَقْرِضُهُمْ}) في قوله: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ}[الكهف:17]، وفسَّر ({تَقْرِضُهُمْ}) بقوله: (تَتْرُكُهُمْ)، وأصل (القَرْض) القَطْع والتَّفرِقة، من قولك: / قرضتُه بالمِقراض؛ أي: قطعتُه، والمعنى هنا: تعدِلُ عنهم وتتركُهم، قاله الأخفش والزجَّاج، وقيل: تُصيبُهم يسيرًا، مأخوذ مِن قُراضة الذهب والفضَّة، وهو مأخوذٌ منها بالمِقراض؛ أي: تعطيهمُ الشمس اليسيرَ مِن شُعاعها، وقيل: معناه: تُحاذيهم، وهو قول الكسائيِّ والفَرَّاء.