عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله ╡ : {وأيوب إذ نادى ربه أني مسنى الضر}
  
              

          ░20▒ (ص) باب قَوْلِ اللهِ ╡ : {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[الأنبياء:83].
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان ما ذُكِرَ في حال أيُّوب في قول الله ╡ : ({وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} الآية[الأنبياء:83]).
          و(أَيُّوبُ) اسمٌ أعجميٌّ لا ينصرف؛ للعُجْمة والعلميَّة، ذكره الله في القرآن في خمسةِ مواضعَ.
          وقوله: و({أَيُّوبَ}) عطفٌ على ما قبله: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ}[الأنبياء:78]؛ والتقدير: واذكُر أيُّوبَ؛ كما أنَّ التقديرَ في قوله: {وَدَاوُدَ}: اذكُر داود.
          واختلفوا في نسبه؛ فقيل: أيُّوب بن أموص بن رزاح بن روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم ♂ ، نُقِلَ هذا عن كعبٍ وابن إسحاق، وقيل: أيُّوب بن أموص بن زيرح بن رعويل بن عيصو، وقيل: أيُّوب بن ساري بن رغوال بن عيصو، والمشهورُ الأَوَّلُ.
          وقيل: كان أبوه ممَّن آمنَ بإبراهيم ◙ يوم أُلْقِيَ في النار، والمشهورُ أنَّهُ مِن ذرِّيَّة إبراهيم؛ لقوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ...} الآية[الأنعام:84]، والمشهورُ أنَّ الضميرَ عائدٌ إلى إبراهيم دون نوحٍ ♂ ، وكانت أمُّه مِن ولد لوط بن هاران، وقال ابن الجوزيِّ: وأمُّه بنت لوطٍ ◙ ، وكان أيُّوبُ في زمن يعقوبَ، وتزوَّج ابنةَ يعقوبَ، واسمُها رحمةُ، وقيل: دنيا، وقيل: لَيا، وقيل: إِنَّما تزوَّج أيُّوب رحمةَ بنتَ ميشا بن يوسف بن يعقوبَ، وقيل: رحمة بنت إفرائيم بن يوسف، وذكر ابن الجوزيِّ في «التبصِرة»: أنَّهُ كان في زمن يعقوبَ، ولكنْ لم يكن نبيًّا في زمانه، ونُبِّئَ بعد يوسف ◙ ، وقيل: كان بعد سليمان، رُويَ عن مقاتل، وكان أيُّوبُ رجلًا غنيًّا، وكان له خمسُ مئةِ فدَّانٍ، يتبعها خمسُ مئةِ عبدٍ، لكلِّ عبدٍ امرأةٌ وولدٌ، وتحمل كلَّ فدَّانٍ أتانٌ؛ لكلِّ أتانٍ ولدٌ مِنَ اثنين وثلاثةٍ وأربعةٍ وخمسةٍ وفوق ذلك، وقيل: له ستُّ مئة عبدٍ؛ لكلِّ عبدٍ امرأةٌ ومالٌ، وكان له ثلاثةَ عشرَ ولدًا، وكان كثيرَ الضِّيافة على مذهب إبراهيم الخليل ◙ ، وكان يكفلُ الأراملَ واليتامى، ويحمل المنقطِعين، وما كان يشبَعُ حَتَّى يُشْبِعَ الجائعَ، ولا يكتسي حَتَّى يكسوَ العاريَ.
          قوله: ({إِذْ نَادَى رَبَّهُ}) أي: حين نادى ربَّه؛ أي: حين دعا ربَّه: ({أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ})، قرأ حمزة: {مسَّنيْ} بسكون الياء، والباقون بفتحها، و{الضُّرُّ} بالضمِّ: الضَّررُ في النفس مِن مرضٍ وهُزالٍ، وبالفتح: الضَّرر في كلِّ شيءٍ.
          واختلفوا في معنى قوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ}؛ فقيل: قال ذلك عند بيع امرأته قرنًا مِن شعرها؛ لشراء شيءٍ اشتهاه، فلم يقدرْ عليه، وقيل: إِنَّما قال ذلك لمَّا سمع نفرًا يقولون: إِنَّما أُصِيبَ هذا لذنبٍ عظيمٍ فَعَلَهُ، وقيل: إِنَّما قال ذلك عند انقطاع الوحي عنه أربعين يومًا؛ فخاف الهِجرانَ، وقيل: إِنَّما قال ذلك عند أكل الدُّود جميعَ جسده، ثُمَّ أراد الدَّبَّ إلى قلبه، وقيل: إِنَّما قال ذلك عند تأخُّر زوجته عنه أيَّامًا؛ لمرضٍ حصلَ لها، فلم يبقَ مَن ينظرُ في أمره، وقال الحسن: أتى إبليسُ إلى امرأته بسَخْلةٍ، فقال: قولي له ليذبحها لي؛ حَتَّى يبرأَ، فجاءت وحكت بذلك، فقال: كِدْتِ أن تُهلِكيني، لَئن فرَّج الله عنِّي؛ لأجلدنَّك مئةً، تأمريني أن أذبحَ لغير الله؟ ثُمَّ طردها عنه، وبقي وحيدًا ليس له / مُعينٌ، فقال: {مسَّنيَ الضرُّ}، وقيل غيرُ ذلك.
          فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ لَمْ يدعُ أَوَّلَ ما نزل به البلاءُ؟
          قُلْت: لأنَّه عَلِمَ أمْرَ اللهِ فيه، ولا تصرُّفَ للعبد مع مولاه، أو أراد مضاعفةَ الثواب، فلمْ يسألْ كشفَ البلاء.
          قوله: ({وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}) تعريضٌ منه بسؤال الرحمة؛ إذ أثنى عليه بأنَّه أرحمُ وألطفُ في السؤال؛ حيث ذَكَر نفسَه بما يوجِب الرحمةَ، وذَكَر ربَّه بغاية الرحمةِ، ولم يصرِّحْ بالمطلوبِ، وقال بعضهم: لم يثبُتْ عند البُخَاريِّ في قصَّة أيُّوب شيءٌ، فاكتفى بهذا الحديث الذي على شَرطِه.
          قُلْت: أراد به حديثَ الباب، وفيما قاله نظرٌ؛ لعدم الدليل على عدمِ ثبوت غير هذا الحديث عنده، ولا يلزم مِن عدم ذكره غيرَ هذا الحديث ألَّا يكون عنده شيءٌ غيرُ هذا الحديثِ على شرطه.
          ثُمَّ قال: وأصحُّ ما ورد في قصَّته ما أخرجه ابن أبي حاتمٍ وابن جريرٍ وابن حِبَّانَ والحاكمُ مِن طريق نافعِ بن يزيدَ، عن عُقيلٍ، عن الزُّهْريِّ، عن أنسٍ: أنَّ أيَّوبَ ◙ ابتُلِيَ، فلبِثَ في بلائه ثلاثَ عشرةَ سنةً، فرَفَضه القريبُ والبعيدُ... الحديث، وروى أحمد بن وهب عن عمِّه عبد الله بن وَهْب: أخبرنا نافع بن يزيدَ عن عقيلٍ، عن ابن شهابٍ، عن أنسٍ مرفوعًا: «أنَّ أيُّوبَ مكث في بلائه ثمان عَشْرةَ سنةً»، وعن خالد بن دريك: أصابه البلاءُ على رأس ثمانين سنةً مِن عمره، وعن ابن عَبَّاسٍ: مَكَث في البلاء سبعَ سنين، وكان أصابه بعد السبعين مِن عمره، وعنِ ابنِ عَبَّاس: سبع سنين وسبعة أشهرٍ وسبعة أيَّامٍ وسبع ساعاتٍ، وقال الحسنُ: مَكَث أيُّوب مطروحًا على كناسة مزبلةٍ لبني إسرائيلَ سبع سنين وأشهرًا، وقال الطَّبَريُّ وابن الجوزيِّ: كان عمرُه حين مات ثلاثًا وتسعين سنةً، وقيل: عاش مئةً وستًّا وأربعين سنةً، ودُفِنَ في الموضعِ الذي ذهب فيه بلاؤه، وهو بالبَثَنيَّة بالشام، وقبرُه ظاهرٌ بها.
          (ص) {ارْكُضْ} اضْرِبْ، {يَرْكُضُونَ} يَعْدُونَ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى في قصَّة أيُّوب ◙ : {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}[ص:42] المعنى: اضرِبْ بِرِجْلِك الأرضَ وحَرِّكْ.
          ({هَذَا مُغْتَسَلٌ}) فيه إضمارٌ؛ معناه: فركض، فنبعت عينٌ، فقيل: {هَذَا مُغْتَسَلٌ} أي: هذا ماءٌ {مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} أي: تغتَسِلُ به وتَشربُ منه، ولمَّا أمره الله بذلك؛ رَكَض برِجْله الأرضَ، فنبعت عينٌ، فاغتسل فيها، فلم يبقَ عليه شيءٌ مِنَ الداء، وعاد إليه شبابُه وجمالُه أحسنَ ما كان، ثُمَّ ضرَبَ برِجْلِه، فنبعت عينٌ أخرى، فشرِب منها، فلم يبقَ في جوفه داءٌ إلَّا خرج، فقام صحيحًا، وكُسِيَ حُلَّةً، وقال السُّدِّيُّ: جاءه جبريلُ ◙ بحُلَّةٍ مِنَ الجنة، فأُلبِسَها.
          فَإِنْ قُلْتَ: كان يكفيه ركضةٌ واحدةٌ؟
          قُلْت: الرَّكضة الأولى لزوال الضَّرر، والثانية: دليلُ الفَرَح والطَّرَب بالعافية بشربةٍ منها، وإِنَّما خصَّ الرِّجْلَ بالرَّكض؛ لأنَّ العادةَ جاريةٌ بأن ينبع الماءُ مِن تحت الرِّجْل، فكان ذلك معجزةً له.
          قوله: ({يَرْكُضُونَ}) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ}[الأنبياء:12] وفسَّره بقوله: (يَعْدُون)، وفسَّره الفَرَّاء بقوله: (يهرُبون).
          ووجهُ ذكر هذا كونُ {ارْكُضْ} و{يَرْكُضُونَ} مِن مادَّةٍ واحدةٍ.