عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب}
  
              

          ░39▒ (ص) باب {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إنَّهُ أَوَّابٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَفَصْلَ الخِطَابِ}[ص:17-20]
          (ش) أي: هذا بابٌ يذكر فيه قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ. وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ}. /
          قوله: ({وَاذْكُرْ عَبْدَنَا}) عطفٌ على ما قبله، وهو قوله: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}[ص:17]، خاطب الله تعالى نبيَّه بقوله: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي: الكفَّار، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} في صبره على العبادة والطاعة.
          قوله: ({ذَا الأَيْدِ}) أي: القوَّة، ({إِنَّهُ أَوَّابٌ}) أي: راجِعٌ عن كلِّ ما يكرهه الله.
          قوله: ({بِالعَشِيِّ}) أي: بآخر النهار، ({وَالإِشْرَاقِ}) أوَّلُه.
          قوله: ({وَالطَّيْرَ}) ؛ أي: وسخَّرنا له ({الطَّيْرَ مَحْشُورَةً}) أي: مجموعةً.
          قوله: ({كُلٌّ لَهُ}) أي: كلُّ واحدٍ مِنَ الجبال والطير له؛ أي: لداودَ ({أَوَّابٌ}) أي: مطيعٌ.
          قوله: ({وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ}) أي: ملك داود، وعن ابن عَبَّاسٍ: كان داودُ أشدَّ ملوكِ الأرض سلطانًا، كان يحرس محرابَه كلَّ ليلة ثلاثةٌ وثلاثون ألف رجلٍ، وعنه: ستَّةٌ وثلاثون ألف رجلٍ، فإذا أصبحوا؛ قيل: ارجعوا، فقد رضي نبيُّ الله عنكم، وقيل: ثلاثةٌ وثلاثون ألفًا مِن بني إسرائيل، ثُمَّ يأتي عوضهم، قال قتادة: فكأنَّ جملةَ حرسِه مائتان وثلاثون ألف حرسٍ.
          قوله: ({وَآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ}) يعني: النبوَّةَ والزبورَ وعلمَ الشرائع والإصابة في الأمر.
          قوله: ({وَفَصْلَ الخِطَابِ}) (الفَصَلُ) : التمييز بين الشيئين، وقيل: الكلامُ البيِّنُ، {فَصْلَ} بمعنى المفصول، وقيل: (الفصل) بمعنى الفاصل، والفاصل مِنَ الخطاب الذي يفصل بين الحقِّ والباطلِ، والصحيحِ والفاسدِ، وقيل: {فَصْلَ الخِطَابِ} وهو قوله: (أَمَّا بعدُ)، فَإِنَّهُ أَوَّل مَن قالها.
          (ص) قال مُجَاهِدٌ: الفَهْمَ في القَضاءِ.
          (ش) أي: قال مجاهد: {فَصْلَ الخِطَابِ} هو الفهمُ في القضاء، وروى ابن أبي حاتم مِن طريق أبي بشر عن مجاهد، قال: الحكمة الصواب، ومِن طريق ليثٍ عن مجاهد: {فَصْلَ الخِطَابِ} إصابة القضاء وفهمه.
          (ص) {ولَا تُشْطِطْ} وَلَا تُسْرِفْ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}[ص:22]، وفسَّر: ({لَا تُشْطِطْ}) بقوله: (لَا تُسْرِفْ)، قال بعضهم: كذا وقع هنا.
          قُلْت: فكأنَّه استبعد هذا التفسيرَ، وقد فسَّره السُّدِّيُّ هكذا، وفسَّره أيضًا بقوله: [لا تحِفْ، وقال الفَرَّاء: معناه لا تجُرْ، وروى ابن جرير مِن طريق قتادة في قوله]: {لَا تُشْطِطْ} أي: لا تمِل، وعن المورج: لا تفرِّطْ، و(الشَّطط) مجاوزة الحدِّ، وأصل الكلمة مِن قولهم: شطَّتِ الدار، وأشطت؛ إذا بعُدَتْ.
          (ص) {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}[ص:22].
          (ش) وهو بعدَ قوله: {وَلَا تُشْطِطْ} ومعناه: واهدِنا إلى وسط الطريق.
          (ص) {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً}[ص:23].
          (ش) فذكر الآيةَ بتمامها، ثُمَّ نذكرُ ما ذكره البُخَاريُّ مِن ألفاظ هذه الآيةِ، وتمامها: {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الخِطَابِ}، وبعد هذه الآية هو قولُه: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}[ص:24].
          قوله: ({إِنَّ هَذَا أَخِي}) أي: في الدين، أو المرادُ أخوَّةُ الصداقة والألفة، وأخوَّةُ الشركة، والمراد مِنَ النعجة المرأة، وهذا مِن أحسن التعريض، حيث كنَّى بالنعاج عن النساء، والعربُ تفعل هذا كثيرًا، تورِّي عنِ النساء بالظِّباء والشاةِ والبَقَر.
          (ص) يُقالُ لِلْمَرْأةِ: نَعْجَةٌ، ويُقالُ لَهَا أيضًا: شاةٌ.
          (ش) هذا كثيرٌ فاشٍ في أشعارهم، وقال الحسين بن الفضل: هذا تعريضٌ للتنبيه والتفهيم؛ لأنَّه لم يكن هناك نعاجٌ، وإِنَّما هذا مثل قول الناس: ضربَ زيد عمرًا، وما كان هناك ضربٌ.
          (ص) {وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا}[ص:23] مِثْلُ {وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا}[آل عِمْرَان:37] ضَمَّهَا.
          (ش) أشار به إلى أنَّ معنى (الكَفْل) الضمُّ؛ فلذلك قال: أكفلنيها؛ مثل: ({وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا}) أي: ضمَّ زكريَّا مريمَ بنت عِمْرَان إلى نفسه، وعن أبي العالية معنى: {أَكْفِلْنِيهَا} ضُمَّها إليَّ حَتَّى أكفلَها، وقال ابن كَيْسان: اجعلها كفلي؛ أي: نصيبي.
          (ص) {وَعَزَّنِي}[ص:23] غَلَبَنِي، صَارَ أَعَزَّ مِنِّي، أَعْزَزْتُهُ؛ جَعَلْتُهُ عَزِيزًا {فِي الخِطَابِ}[ص:23].
          (ش) قال أبو عبيدة في قوله: ({وَعَزَّنِي فِي الخِطَابِ}) [ص:23]؛ أي: (صَارَ أَعَزَّ مِنِّي) فيه، ويقال: {عَزَّنِي فِي الخِطَابِ} أي: المحاورة، وعن قتادة معناه: ظلمني وقهرني.
          (ص) يُقالُ: / المُحَاوَرَةُ.
          (ش) أي: الخطاب: المحاورة؛ بالحاء المُهْمَلة.
          (ص) {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}[ص:24].
          (ش) أي: قال داود، وفي «تفسير النَّسَفِيِّ»: {لَقَدْ ظَلَمَكَ} جوابُ قسمٍ محذوفٍ، وفي ذلك استنكارٌ لفعل خليطه، وتهجينٌ لطمعه.
          قوله: ({بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}) مصدرٌ مضافٌ إلى المفعول.
          (ص) {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ} أي: الشُّرَكَاءِ {لَيَبْغِي} إِلَى قَوْلِهِ: {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}[ص:24].
          (ش) فَسَّرَ ({الخُلَطَاءِ}) بـ(الشُّرَكَاءِ)، وهكذا فسَّره المفسِّرون، وهو جمع (خَليط).
          قوله: ({لَيَبْغِي}) أي: لَيظلِم.
          قوله: (إِلَى قَوْلِهِ: {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}) قد ذكرنا الآن تمامَ الآيةِ.
          (ص) قال ابنُ عَبَّاس: اخْتَبَرْنَاهُ.
          (ش) أي: قال عبد الله بن عَبَّاسٍ: معنى {فَتَنَّاهُ} (اخْتَبَرْنَاهُ).
          وهذا وصله ابن أبي حاتم مِن طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه.
          (ص) وقَرَأ عُمَرُ ☺ : {فَتَّنَّاهُ} بِتَشْدِيدِ التَّاءِ.
          (ش) هذه قراءةٌ شاذَّةٌ، ونُقِلَت هذه القراءة أيضًا عن الحسن البِصْريِّ وأبي رجاء العطارديِّ.
          (ص) {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}[ص:24].
          (ش) ({خَرَّ رَاكِعًا}) أي: حال كونه راكعًا؛ أي: ساجدًا، وعبَّر عن السجود بالركوع؛ لأنَّهما بمعنى الانحناء.
          قوله: ({وَأَنَابَ}) أي: رجع إلى الله بالتوبة، مِنَ الإنابة؛ وهو الرجوع إلى الله بالتوبة، يقال: أناب ينيب إنابةً؛ فهو منيب؛ إذا أقبل ورجع.