عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلًا}
  
              

          ░8▒ (ص) باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان فضلِ إبراهيم الخليل ◙ ، كما في قول الله تعالى: ({وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا})، وتمام الآية هو قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}[النساء:165].
          وسببُ تسميته خليلًا: ما ذكره ابن جَريرٍ في «تفسيره» عن بعضهم: أنَّهُ إِنَّما سمَّاه الله خليلًا؛ مِن أجل أنَّهُ أصاب أهلَ ناحيته جَدْبٌ، فأرسل إلى خليلٍ له مِن أهل المَوصِل _وقيل: مِن أهل مِصْرَ_ ليمتار طعامًا لأهله مِن قِبَلِه، فلم يُصِبْ عنده حاجتَه، فلمَّا قرُب مِن أهله؛ مرَّ بمفازةٍ ذاتِ رمالٍ، فقال: لو ملأتُ غَرائري مِن هذا الرَّمل؛ لئلَّا أغمَّ أهلي برجوعي إليهم بغير ميرةٍ، وليظنُّوا أنِّي أتيتُهم بما يحبُّون، ففعل ذلك، فتحوَّل ما في غرائره مِنَ الرمل دَقيقًا، فلمَّا صار إلى منزله؛ نام، وقام أهلُه، ففتحوا الغرائر، فوجدوا دقيقًا، فعَجَنوا منه، وخَبَزوه، فاستيقظ، فسألهم عنِ الدقيق الذي منه خَبَزوه، فقالوا: مِنَ الدقيق الذي جئتَ به مِن عند خليلِكَ، فقال: نعم؛ هو مِن خليلي الله؛ فسمَّاه الله بذلك خليلًا، وقيل: إِنَّما سُمِّي خليلًا؛ لشدَّة محبَّة ربِّه ╡ لِمَا قام له مِنَ الطاعة التي يحبُّها ويرضاها.
          وقيل: جاء مِن طريق جُنْدب بن عبد الله البَجَليِّ، وعبد الله بن عَمْرو بن العاص، وعبد الله بن مسعودٍ، عن النَّبِيِّ صلعم : «إنَّ الله اتَّخذني خليلًا؛ كما اتَّخذَ إبراهيمَ خليلًا»، وقال ابن أبي حاتمٍ بإسناده إلى عُبَيد بن عُمَيْر قال: كان إبراهيم ◙ يُضيِّف الناسَ، فخرج يومًا يلتمس إنسانًا يضيِّفه، فلم يجدْ أحدًا يضيِّفُه، فرجع إلى داره، فوجد فيها رجلًا قائمًا، فقال: يا عبدَ الله؛ ما أدخلك داري بغير إذني؟ فقال: دخلتُها بإذن ربِّها، قال: ومَن أنت؟ قال: ملَك الموت، أرسلني ربِّي إلى عبدٍ مِن عباده أبشِّرُه بأنَّ الله قد اتَّخذه خليلًا، قال: مَن هو؟ فوالله إن أخبرتني به، ثُمَّ كان بأقصى البلاد؛ لأتيتُه، ثُمَّ لا أبرحُ له جارًا حَتَّى يفرِّق بيننا الموتُ، قال: ذاك العبدُ أنت، قال: نعم، قال: فَيِمَ اتَّخذني رَبِّي خليلًا؟ قال: إنَّك تُعطي الناس ولا / تسألُهم.
          واختلفوا في نسبه؛ فقيل: إنَّهُ إبراهيم بن تارح بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن عابر بن شالخ بن قَينان بن أَرْفَخشذ بن سام بن نوحٍ، حكاه السُّدِّيُّ عن أشياخه، وقد أسقط ذكر «قَينان» مِن عمود النَّسب؛ بسبب أنَّهُ كان ساحرًا، وقيل: إبراهيم بن تارح بن أسوع بن أرغو بن فالغ بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ◙ ، وقيل: إبراهيم بن آزَر بن الناحر بن سارغ بن والغ بن القاسم _الذي قسم الأرض_ ابن عَيْبَر بن شالخ بن واقد بن فالخ، وهو سام، وقيل: آزر بن صاروج بن راغو بن فالغ بن أرفخشذ.
          وقال الثعلبيُّ: كان اسمَ أبِ إبراهيم الذي سمَّاه أبوه تارحُ، فلمَّا صار مع نَمرود قيِّمًا على خِزانة آلهته؛ سمَّاه آزرَ، وقيل: آزر اسمُ صنمٍ، وقال ابن إسحاق: إنَّهُ لقبٌ له، عيبَ به؛ ومعناه: معوجٌّ، وقيل: هو بالقبطيَّة: الشيخُ الهرِمُ، وقال الجَوْهَريُّ: آزر اسمٌ أعجميٌّ، وقال البلاذريُّ عن الشَّرفيِّ بن القَطَاميِّ: إنَّ معنى «آزر»: السيِّدُ المعينُ، وقال وهب: اسم أمِّ إبراهيم نونا بنت كرنبا، مِن بني سام بن نوحٍ.
          وقال هشامٌ: لم يكن بين نوحٍ وإبراهيمَ ♂ إلَّا هودٌ وصالحٌ ♂ ، وكان بين إبراهيمَ وهودٍ ستُّ مئةِ سنةٍ وثلاثون سنةً، وبين نوحٍ وإبراهيمَ ألفٌ ومئةٌ وثلاثٌ وأربعون سنةً، وقال الثعلبيُّ: وكان بين مولد إبراهيمَ وبين الطُّوفان ألفُ سنةٍ ومئتا سنةٍ وثلاثٌ وستُّون سنةً، وذلك بعد خلق آدمَ بثلاثة آلاف سنةٍ، وثلاث مئة سنةٍ، وسبعٍ وثلاثين سنةً، وكان مولدُ إبراهيم في زمن نُمرود بن كنعان، ولكنِ اختلفوا في أيِّ مكانٍ وُلِدَ؟ فقيل: ببابِل مِن أرض السَّواد، مدينة نُمرود، قاله ابن عَبَّاس، وعن مجاهد: بـ«كوثا» محلَّةٌ بـ«كوفة»، وعن عِكْرِمَة: بـ«السُّوس»، وعن السُّدِّيِّ: بين البصرة والكوفة، وعنِ الربيع بن أنس: بـ«كُسْكَر»، ثُمَّ نقله أبوه إلى كوثا، وعن وهب: بـ«حرَّان»، والصحيحُ الأَوَّلُ.
          وقال مُحَمَّد بن سعد في «الطبقات»: كنيةُ إبراهيم أبو الأضياف، وقد سمَّاه [الله] بأساميَ كثيرةٍ؛ منها: الأوَّاه، والحليم، والمنيب، قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}[هود:75] ومنها: الحنيف؛ وهو المائلُ إلى الدين الحقِّ، ومنها: القانِت والشاكر...؛ إلى غير ذلك.
          قُلْت: هذه أوصافٌ له في الحقيقة.
          ومات إبراهيمُ وهو ابن مئتَي سنةٍ، وهو الأصحُّ، ويُقَال: مئةٌ وخمسةٌ وسبعون، قاله الكلبيُّ، وقال مقاتلٌ: مئةٌ وتسعون سنةً، ودُفِنَ في المغارة التي في حَبْرُون، وهي الآن تُسمَّى بمدينة الخليل، ومعنى (إبراهيم) : أبٌ رحيمٌ؛ لرحمته الأطفالَ؛ ولذلك جُعِلَ هو وسارةُ كافلَينِ لأطفال المؤمنينَ الذين يموتون إلى يوم القيامة، وسيأتي عن قريبٍ، وقال الجواليقيُّ: إبراهيم، وإبرهم، وإبراهم، وإبراهام.
          (ص) وَقَوْلِهِ: {إنَّ إبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}[التوبة:114].
          (ش) (وقَوْلِهِ) عطفٌ على المجرور في (باب قولِ الله).
          (الأَوَّاهُ) على وزن: (فَعَّال) ؛ للمبالغة فيمَن يقول: (أوه)، وهو المتأوِّهُ المتضرِّعُ، وقيل: هو الكثيرُ البكاءِ، وقيل: الكثيرُ الدعاءِ، وفي الحديث: «اللهمَّ؛ اجعلني لك مخبِتًا أوَّاهًا مُنيبًا»، وعن مجاهد: الأوَّاهُ المنيبُ: الفقيرُ الموقن، وعن الشعبيِّ: الأوَّاه: المسبِّح، وعن كعب الأحبار: (كان إذا ذَكَر النار؛ قال: أوَّاه مِن عذاب الله).
          (ص) وقال أبُو مَيْسَرَةَ: الرَّحِيمُ بِلسَان الحَبَشَةِ.
          (ش) (أبُو مَيْسَرَةَ) ضدُّ (الميمنة)، واسمه عَمْرو بن شُرَحْبِيل الهَمْدانيُّ الوادعيُّ الكوفيُّ، سمِع ابنَ مسعود، وعنه أبو وائل شقيقُ بن سلمة، مات قبل أبي جُحَيفة في ولاية عُبيد الله بن زياد.
          وهذا الأثر المعلَّق وصلهُ وكيعٌ في «تفسيره» مِن طريق أبي إسحاق عنه.