نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه

          ░164▒ (باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّنَازُعِ وَالاِخْتِلاَفِ فِي الْحَرْبِ) أي: في أحوال الحرب (وَعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى إِمَامَهُ) أي: بالهزيمة وحرمان الغنيمة.
          وفي ((التَّوضيح)): التَّنازع هو الاختلاف، وتعقَّبه العيني: بأنَّه يلزم عطف الشَّيء على نفسه، ولا يقال: إنَّه عطف بيان، فإنَّ التنازع معلومٌ فلا يحتاج إلى البيان، ثمَّ المراد بالتَّنازع هو التخاصمُ والتَّجادل، والاختلاف أن يذهبَ كلُّ واحد منهم إلى رأي، والاختلاف سبب الهلاك في الدُّنيا والآخرة؛ لأنَّ الله ╡ قد عبَّر في كتابه بالخلاف الذي قضَى به على عباده عن الهلاك في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللّهُ}[البقرة:253] {مَا اخْتَلَفُواْ}[البقرة:213] (1)، وقال أيضاً: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:119] يعني ليكونوا فريقين فريق في الجنَّة، وفريق في السَّعير من أجل اختلافهم.
          (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]) والآية في سورة الأنفال، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} [الأنفال:45] حاربتم جماعة، ولم يصفها؛ لأنَّ المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفَّار، واللِّقاء ممَّا غلب في القتال {فَاثْبُتُوا} للقائهم {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} في مواطن الحرب داعين له، مستظهرين بذكره، مترقِّبين لنصره {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] تظفرون بمرادكُم من النُّصرة والمثوبة.
          وفيه تنبيهٌ على أنَّ العبد ينبغي أن لا يشغله شيءٌ عن ذكر الله، وأن يلتجئَ إليه عند الشَّدائد، ويقبل عليه بشدائدهِ فارغ البال واثقاً بأنَّ لطفه لا ينفكُّ عنه في شيءٍ من الأحوال.
          {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا} [الأنفال:46] باختلاف الآراء كما فعلتم ببدرٍ وأُحد {فَتَفْشَلُوا} جواب النَّهي، وقيل: عطف عليه، ولذلك قرئ: {وتذهبْ ريحكم} بالجزم، والرِّيح مستعارة للدَّولة من حيث إنَّها في تمشِّي / أمرها ونفاذه مُشَبَّهةٌ بها في هبوبها ونفوذها. وقيل: المراد بها الحقيقة، فإنَّ النُّصرة لا تكون إلَّا بريح يبعثه الله تعالى، وفي الحديث: ((نصرت بالصَّبا وأُهْلِكَتْ عادٌ بالدَّبُور)).
          {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] بالكلاءة والنصرة، قال العيني: خاطب المؤمنين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} [الأنفال:45] الآية أمر أولاً بالثَّبات عند ملاقاتهم الأعداء، والصَّبر على مبارزتهم، ثمَّ أمرهم بذكرهِ في تلك الحال ولا ينسونه بل يستغيثون به، ويتوكَّلون عليه، ويسألونهُ النَّصر عليهم، ثمَّ أمرهم بإطاعة الله ورسولهم في حالهم ذلك فما أمرهم به ائتمروا، وما نهاهُم عنه انزجروا، ولا يتنازعون فيما بينهم فيفشلون، من الفَشَل، بفتح الفاء والمعجمة، وهو الفزعُ والجبن والضَّعف، يقال: فشل إذا هاب أن يقدم جبناً، وتذهب ريحهم؛ أي: قُوَّتُهم وحِدَّتُهم، وما كانوا فيه من الإقبال، ويصبرون فإنَّ الله مع الصَّابرين بالنصرة.
          (يَعْنِي: الحَرْبَ) هذا وقع في رواية الكُشميهني وحدَه، ووقع في رواية الأَصيلي في هذا الموضع (قَالَ قَتَادَةُ: الرِّيحُ: الْحَرْبُ) وهذا وصله عبد الرَّزَّاق في ((تفسيره)) عن مَعمر، عن قتادة، به. وقال مجاهد: الرِّيح النَّصر، وقيل: الدَّولة شبهت في نفوذ أمرها وتمشيته بالرِّيح وهبوبها، فقيل: هبَّت رياح فلان إذا دالت له الدَّولة.


[1] كذا في الأصل الخطي، ولعله يقصد قوله تعالى في {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين}[هود: 118]. وقوله تعالى :{ولو شاء الله}[البقرة :253]،وقوله تعالى {لما اختلفوا}[البقرة:213]