نجاح القاري لصحيح البخاري

باب التحريض على القتال

          ░33▒ (باب التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَقَوْلِهِ تَعالَى) بالجرِّ عطفاً على التَّحريض، وفي بعض النُّسخ: <وقول الله تعالى> ({حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال:65]) هذه الآية في سورة الأنفال.
          وأولها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} أي: حُثَّهم عليه وبالِغْ في حَثِّهم عليه، وأصله: الحرض وهو أن ينهكه المرض حتَّى يُشْفِيْ على الموت، قال تعالى: {حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً} [يوسف:85] وقرئ في الشواذ: (▬حَرِّص↨) بالصاد المهملة، من الحرص {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:65] شرط في معنى الأمر بمصابرة الواحد للعشرة، والوعد بأنَّهم إنْ صبروا غلبوا بعون الله وتأييده، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: ({تَكُن} [الأنفال:65]) بالتاء في الآيتين، ووافقهم البصريان في: {وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ}.
          {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال:65] بسبب أنَّهم جهلة بالله واليوم الآخر لا يثبتون ثبات المؤمنين رجاء الثَّواب وعوالي الدَّرجات قَتَلوا أو قُتِلوا، ولا يستحقُّون من الله إلَّا الهوان والخذلان {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ} [الأنفال:66] لمَّا أوجب الله تعالى على الواحد مقاومة العشرة والثَّبات لهم وثَقُل ذلك عليهم خفَّف الله عنهم بمقاومة الواحد الاثنين.
          وقيل: كان فيهم قلَّة فأُمِروا بذلك ثمَّ لمَّا كثروا خفَّف الله عنهم، وتكرير المعنى الواحد بذكر الأعداد المتناسبة للدَّلالة على أنَّ حكم القليل والكثير واحد والضَّعْفُ ضَعْف البدن، وقيل: ضَعْف البصيرة، وكانوا متفاوتين فيها. وفيه لغتان: الفتح، وهو قراءة عاصم وحمزة والضم، وهو قراءة الباقين {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:66] / بالنَّصر والمعونة، فكيف لا يغلبون.
          قال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا أحمد بن عثمان بن حكيم: حدَّثنا عبيد الله بن موسى: أنا سفيان، عن ابن شوذب، عن الشَّعبي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال:65] ؛ أي حُثَّهم عليه، ولهذا كان رسول الله صلعم يحرِّض على القتال عند صفِّهم ومواجهة العدوِّ، كما قال لأصحابه يوم بدر حين أقبل المشركون في عَددهم وعُددهم: ((قوموا إلى جنَّة عرضها السَّماوات والأرض)).
          وقال محمَّد بن إسحاق: حدَّثني ابنُ أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عبَّاس ☻ قال: لمَّا نزلت هذه الآية أعني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية ثقلت على المؤمنين وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين ومائة ألفاً، فخفَّف الله عنهم، فنسخها بالآية الأخرى، فقال: {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} [الأنفال:66] الآية، فكانوا إذا كانوا على الشَّطر من عدوِّهم لم يَنْبَغِ لهم أن يفرُّوا من عدوِّهم، وإذا كانوا دون ذلك لم يجبْ عليهم وجاز لهم أن يتحوَّزوا.
          وروى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عبَّاس ☻ نحو ذلك، وقال ابنُ أبي حاتم: وروي عن مجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والضَّحاك نحو ذلك.
          قال مقاتل: لم يكن فريضة ولكن كان تحريضاً فلم يطق المؤمنون، فخفَّف الله عنهم بعد قتال بدرٍ فنزل قوله: {الآن خَفَّفَ اللهُ عَنكم}.
          وروى عكرمة، عن ابن عبَّاس ☻ أنَّه قال: ((فرضَ على المسلمين أن لا يفرَّ رجلٌ من عشرة ولا عشرة من مائة، فجهد النَّاس فشقَّ عليهم فنزلت الآية الأخرى: {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ} [الأنفال:66] ففرض عليهم أن لا يفرَّ رجلٌ من رجلين ولا قوم من مثليهم فنقص من النُّصرة بقدر ما نقص من العدد)).
          وروى عطاء عن ابن عبَّاس ☻ أنَّه قال: ((من فرَّ من رجلين فقد فرَّ، ومن فرَّ من ثلاثةٍ لم يفرَّ)).
          وقال الفقيه أبو اللَّيث: إذا لم يكن معه سلاحٌ ومع الآخر سلاحٌ جاز أن يفرَّ؛ لأنَّه ليس بمقاتلٍ أصلاً.