نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الجعائل والحملان في السبيل

          ░119▒ (باب: الْجَعَائِلِ) بالجيم، جمع: جُعيلة، وهي ما يجعله القاعدُ من الأجرة لمن يغزو عنه، وكذا الجَعَالة بالفتح، والجُعل: بالضم الاسم، وبالفتح المصدر، يقال: جعلت له جُعلاً وجَعلاً، وهو الأجرةُ على الشَّيء فعلاً أو قولاً.
          (وَالْحُمْلاَنِ) بضم المهملة وسكون الميم، مصدرٌ كالحمل، يقال: حمل حملاً وحُمْلاناً (فِي السَّبِيلِ) أي: في سبيل الله، وهو الجهاد. قال ابن بطَّال: إذا أخرج الرَّجل من ماله شيئاً يتطوَّع به في سبيل الله، أو أعان الغازي على غزوه بفرسٍ يغزو عليه ونحو ذلك، فلا نزاعَ في جوازه، وإنَّما اختلفوا فيما / إذا آجر نفسه، أو فرسه في الغزو، فكره ذلك مالك، وكره أن يأخذ جعلاً، على أن يتقدَّم إلى الحصن. وكره أبو حنيفة وأصحابه الجعائل إلَّا إذا كان بالمسلمين ضَعْفٌ، وليس في بيت المال شيءٌ فقالوا: إن أعان بعضهم بعضاً جاز ولا يكره. وقال الشافعيُّ: لا يجوز أن يغزو بجعلٍ يأخذه، وإنَّما يجوز من السُّلطان دون غيره؛ لأنَّه يغزو بشيءٍ من حقِّه، واحتجَّ في ذلك بأنَّ الجهاد فرضٌ على الكفاية؛ فمن فعله وقع عن فرضه، ولا يجوز أن يستحقَّ عوضاً على غيره. انتهى.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: والذي يظهر أنَّ البخاري أشار إلى الخلاف فيما يأخذه الغازي هل يستحقُّه بسبب الغزو فلا يتجاوزه إلى غيره، أو يملكه فيتصرَّف فيه بما شاء، كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) هو: ابنُ جبر، ضدُّ الكسر، الإمام المفسر أحدُ أعلام التَّابعين، ويقال: إنَّه رأى هاروت وماروت، وكاد يتلف بذلك، قاله الكرمانيُّ والعهدة عليه (قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ) ☻ (الْغَزْوَ) بالنصب على تقدير: أريد الغزو. وقال الحافظ العسقلانيُّ: هو بالنصب على الإغراء، والتَّقدير: عليك الغزو، وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّه لا يستقيم؛ فإنَّ مجاهداً يخبر عن نفسه أنَّه يريد أن يغزوَ؛ بدليل قول ابن عمر ☻ له: إنِّي أحبُّ أن أعينك... إلى آخره. وفي رواية الكُشْمِيْهنيِّ: <أتغزو> بالاستفهام، فليتأمَّل.
          (قالَ) أي: ابن عمر ☻ (إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُعِينَكَ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِي، قُلْتُ) أي: قال مجاهدٌ (أَوْسَعَ اللَّهُ عَلَيَّ) وأراد به أنَّ عنده ما يكفيه للجهاد، وليس له حاجةٌ إلى ذلك.
          (قَالَ) أي: ابن عمر ☻ (إِنَّ غِنَاكَ لَكَ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِي فِي هَذَا الْوَجْهِ) وهذا القول يدلُّ على أنَّ الرجل إذا أخرج من ماله شيئاً يتطوَّع به في سبيل الله يجوز ولا بأس به، وكذلك إذا أعان الغازي بفرسٍ يغزو عليه، ونحو ذلك على ما مرَّ، وهذا الأثر وصله المؤلِّف في ((المغازي))، في غزوة الفتح بمعناه [خ¦4309].
          (وَقَالَ عُمَرُ ☺: إِنَّ / نَاساً يَأْخُذُونَ مِنْ هَذَا الْمَالِ) أي: من بيت مال المسلمين (لِيُجَاهِدُوا، ثُمَّ لاَ يُجَاهِدُونَ، فَمَنْ فَعَلَ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِمَالِهِ، حَتَّى نَأْخُذَ مِنْهُ مَا أَخَذَ) وهذا التَّعليق وصله ابنُ أبي شيبة من طريق سليمان الشَّيبانيِّ، عن عمرو بن أبي قرَّة قال: ((جاءنا كتاب عمر بن الخطَّاب ☺ أنَّ ناساً))، فذكر مثله، وأخرجهُ البخاريُّ أيضاً في «تاريخه». وقول عمر ☺ هذا يدلُّ على أنَّ كلَّ من أخذ مالاً من بيت المال على عَمَلٍ، فإذا أهمل العمل يُؤخذ منه ما أخذه، وكذلك الأخذُ منه على عَمَلٍ لا يتأهَّل له، ولا يُلْتَفَتُ إلى تخيل أنَّ الأصل في بيت مال المسلمين الإباحة للمسلمين.
          قال العينيُّ: ويؤخذُ من ذلك: أنَّ كلَّ من يتولَّى وظيفةً دينيَّةً، وهو ليس بأهلٍ لذلك يؤخذُ منه ما يأخذهُ من مال تلك الوظيفة الذي عُيِّن لإقامتها.
          (وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ: إِذَا دُفِعَ) على البناء للمفعول (إِلَيْكَ شَيْءٌ تَخْرُجُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ) أي: ممَّا يتعلَّق بسبيل الله (وَضَعْهُ عِنْدَ أَهْلِكَ) فإنَّ الوضع عند الأهل أيضاً من متعلَّقاته. وصله ابن أبي شيبة بمعناه عنهما، وكان سعيد بن المسيِّب يقول: إذا أُعْطِيَ الإنسانُ شيئاً في الغزو إذا بلغت رأس مغزاك فهو لك.