نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الجاسوس

          ░141▒ (باب) حكم (الْجَاسُوسِ) بجيم ومهملتين، إذا كان من جهة الكفَّار ومشروعيَّته إذا كان من جهة المسلمين، والجاسوس على وزن فاعول من التجسُّس، وهو التَّفتيش عن بواطن الأمور، كما قال: (وَالتَّجَسُّسُ: التَّبَحُّثُ) هكذا فسَّره أبو عبيدة. والتبحُّث من باب التفعل من البحث، وهو التَّفتيش، ومنه بحث الفقيه؛ لأنه يفتِّش عن أَصْلِ المسائل.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجر عطفاً على الجاسوس ({لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]) والآية أوَّل سورة الممتحنة، وأولها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} مفعول ثان لقوله: {لَا تَتَّخِذُوا} والعدوُّ: فَعُولٌ من عدا، كعفو من عفا، ولكونه على زنة المصدر أُوْقِعَ على الجَمْع إيقاعه على الواحد.
          {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] أي: تُفْضُون إليهم المودَّة بالمكاتبة، والباء مزيدة، أو إخبار رسول الله صلعم بسبب المودَّة، والجملة حال من فاعل لا تتَّخذوا، أو صفة لأولياء جرت على غير من هي له، فلا حاجةَ فيها إلى إبراز الضَّمير بأن يقال: تلقون إليهم أنتم بالمودة؛ لأنَّه مشروط في الاسم دون الفعل.
          {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} حال من فاعل أحد الفعلين {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} أي: من مكَّة، وهو حال من {كَفَرُوا}، أو استئناف لبيانه، وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية لاستحضارها أو للاستمرار. قال في «الكشف»: كأنَّه قيل: كيف كفروا؟ وأجيب: بأنَّهم كفروا أشدَّ الكفر بإخراج الرَّسول والمؤمنين لإيمانهم خاصَّة لا لغرض آخر، كما قال تعالى: {أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ}. أي: بأن تؤمنوا به. وفيه: تغليب المخاطب على الغائب، وهو الرَّسول صلعم ، والالتفات من التكلُّم إلى الغيبة حيث لم يقل: أن تؤمنوا بي؛ للدَّلالة على ما يوجب الإيمان، وهو استجماعه الصِّفات الكماليَّة عموماً، واتِّصافه بربوبيتهم / خصوصاً، أو المراد الذَّات والوصف، ولا دَلالة في التكلُّم على الثَّاني.
          {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} عن أوطانكم {جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} علَّة للخروج وعمدة للتَّعليق، وجواب الشَّرط محذوف دلَّ عليه {لَا تَتَّخِذُوا} {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} بدل من {تُلْقُونَ}، أو استئناف؛ أي: للسُّؤال المستفاد من مساقِ الكلام حيث دلَّ على المعاتبة، فكان موضع أن يسألوا: ماذا صدر عنَّا حتَّى عوتبنا، ومآل المعنى ولازمه. أي طائلٍ لكم في إسرار المودَّة، أو الإخبار بسبب المودَّة.
          {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} أي: منكم على أن يكون {أَعْلَمُ} اسم تفضيل. وقيل: {أَعْلَمُ} مضارع، والباء مزيدة، وزيادة الباء في المفعول شائعة، وما موصولة، أو مصدرية {وَمَنْ يَفْعَلْهُ} أي: يفعل الاتِّخاذ {مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1] أي: أخطأه.
          ومناسبة الآية للحديث: أنَّ القصَّة المذكورة في الحديث كانت سبب نزولها كما سيأتي في التَّفسير، ويمكن أن يقال: إنَّه يُنْتَزَعُ منها حكمُ جاسوسِ الكفَّار.