نجاح القاري لصحيح البخاري

باب أهل الدار يبيتون فيصاب الولدان والذراري

          ░146▒ (باب) حكم (أَهْلِ الدَّارِ) أي: أهل دار الحرب (يُبَيَّتُونَ) على صيغة المجهول من التَّبييت، يقال: بيَّت العدوَّ؛ أي: أوقع بهم ليلاً (فَيُصَابُ الْوِلْدَانُ) جمع: الوليد، وهو الصَّبي، والفاء للسببية (وَالذَّرَارِيُّ) بالرفع والتشديد عطف على الولدان، ويجوز بالسكون والتخفيف، وهو جمع ذريَّة، وجواب المسألة يعلم من الحديث ({بَيَاتاً} لَيْلاً) هذا ليس من التَّرجمة، بل هو من القرآن، وقد جرت عادته أنَّه إذا وقع في الخبر لفظة توافق ما وقع في القرآن، أورده تفسيراً للفظ الواقع في القرآن جَمْعاً بين المصلحتين، وتبرُّكاً بالأمرين، وهذه اللَّفظة في آية في سورة الأعراف وهي قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف:4].
          {أَهْلَكْنَاهَا} أي: أردنا إهلاك أهلها بمخالفتهم رسلنا وتكذيبهم إيَّاهم {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} / أي: نقمتنا {بَيَاتاً} أي: ليلاً {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} من القيلولة، وهي الاستراحة وسط النَّهار.
          وقال ابن المنيِّر: موضع بياتاً نياماً بنون وميم من النَّوم، فصارت هكذا فيصاب الوِلدان والذَّراري نياماً ليلاً، وجعل هذه اللَّفظة من التَّرجمة، ثمَّ قال: والعجب من زيادته في التَّرجمة نياماً، وما هو في الحديث إلَّا ضمناً إلَّا أنَّ الغالب أنَّهم إذا أوقع بهم ليلاً كان أكثرُهم نياماً، لكن ما الحاجة إلى التَّقييد بالنَّوم والحكم سواء نياماً كانوا أو أيقاظاً، إلَّا أن يقال: إن قتلهم نياماً أدخل في الاغتيال من كونهم أيقاظاً، فنبَّه على جواز مثل ذلك. انتهى. وقد صحَّف ثمَّ تكلَّف، ومعنى البيات المراد في الحديث: أن يغار على الكفَّار باللَّيل بحيث لا ُيميَّز بين أفرادهم.
          قال صاحب «التَّلويح»: هذا قولٌ لم يقُلْه البخاريُّ، والذي رأيت في عامَّة ما رأيت من نسخ البخاري: ((بياتاً)) بباء موحدة وبعد الألف مثناة فوقية، وكأنَّ هذا القائل وقعت له نسخة مصحفة، أو تصحَّف عليه بياتاً بنيام. انتهى.
          وتعقَّبه العيني: بأنَّ هذا القائل لا يستحقُّ هذا المقدار من الحطِّ عليه، وله أن يقول: رأيت عامَّة ما رأيت من نسخ كتاب الصَّحيح: ((نياماً)) بالنون والميم فليتأمَّل، ووقع في رواية أبي ذرٍّ من الزِّيادة هنا قوله: ({لَنُبَيِّتَنَّهُ} [النمل:49]: ليلاً {بَيَّتَ}[النساء:81] لَيْلاً) وقد أكَّد صاحب «التلويح» كلامه الذي ذكر آنفاً بهاتين اللَّفظتين حيث قال: يوضِّحه؛ أي يوضِّح ما ذكره: ما في بعض النُّسخ من قول البخاري: (({لنبيِّتنَّه} ليلاً {بيَّت} ليلاً)).
          وقال العيني: هذا كلُّه ليس بوجهٍ قويٍّ في الردِّ على ذاك القائل؛ لأنَّه لا يلزم من ذِكْرِ هاتين اللَّفظتين في بعض النُّسخ أن يكون لفظ بياتاً بالباء الموحدة، بل يجوز أن يكون بالنون والميم، ويكون من التَّرجمة، ثمَّ ذكر هاتين اللَّفظتين؛ لكونهما من القرآن على عادته.
          وأمَّا الأولى: ففي سورة النَّمل في قوله تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل:49] الآية بمعنى قالوا: / متقاسمين بالله: لنبيتنه، قرأ حمزة والكسائي: بضم التاء على الخطاب، والباقون: بالنون، وهو من البيات، وهو مباغتة العدوِّ ليلاً.
          وأمَّا الثَّانية: ففي سورة النِّساء في قوله تعالى: {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ}[النساء:81] غَيْرَ الذِيْ تَقُوْل، وهو من التَّبييت من اللَّيل؛ لأنَّه وقت البيتوتة، فإنَّ ذلك الوقت أخلى للفكر، وذلك جميع ما في القرآن من هذه المادَّة. وقال أبو عبيدة: كلُّ شيءٍ قدر بليل تبييت. قال الشَّاعر:
هَبَّتْ لِتَعْذُلَنِي بلَيلٍ أَسمَعِ                     سَفَهاً تُبيِّتُكِ المَلامَةُ فاهْجَعِي