نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين}

          ░31▒ (باب قَوْلِ اللَّهِ ╡: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} إِلَى قَوْلِهِ {غَفُوراً رَحِيمَاً} [النساء:95-96]) وفي بعض الأصول: سيقت الآية إلى قوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ} ثمَّ أتى بقوله: إلى قوله: {غَفُوراً رَحِيماً}، وفي بعضها: سيقت الآيتان بتمامهما.
          والآية في أواسط سورة النِّساء، قال الله تبارك وتعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ}؛ أي: عن الجهاد والحرب والمراد غزوة بدر، قاله ابن عبَّاس ☻ . وقال مقاتل: غزوة تبوك.
          {مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ} في موضع الحال من القاعدين أو من الضَّمير الذي فيه {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} مثل: العَمى والعَرَج والمَرَض و{غير} بالرفع صفة للقاعدين؛ لأنَّه لم يقصد به قوم بأعيانهم أو بدل منه. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنَّصب على الحال أو الاستثناء، وقرئ بالجر على أنَّه صفة للمؤمنين أو بدل منه {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِم وَأَنْفُسِهِمْ} عطف على قوله: {الْقَاعِدُونَ}؛ أي: لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الجهاد من غير علَّة، وفائدةُ تذكيرِ ما بينهما من التَّفاوت ترغيبُ القاعد في الجهاد؛ رفعاً لرتبته وأنفة عن انحطاط منزلته / {فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِم عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَة} هذه الجملة موضحة للجملة الأولى التي فيها نفيُ استواء القاعدين والمجاهدين، كأنَّه قيل: ما بالهم لا يستوون، فأُجيب بقوله: {فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ} والقاعدون على التَّقييد السَّابق، وقوله: درجة نصب بنزع الخافض؛ أي: بدرجة أو على المصدر؛ لأنَّه تضمن معنى التَّفضيل، ووقع موقع المرَّة منه أو على الحال بمعنى ذوي درجة.
          {وَكُلاً}؛ أي: وكلُّ فريقٍ من القاعدين والمجاهدين {وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى}؛ أي: المثوبة الحسنى وهي الجنَّة؛ لحسن عقيدتهم وخلوص نيَّتهم، وإنَّما التَّفاوت في زيادة العمل المُقْتَضِي لمزيد الثَّواب.
          {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:95] نصب على المصدر بفضل؛ لأنَّه في معنى أجرهم أجراً أو على المفعول الثَّاني له لتضمُّنه معنى الإعطاء، كأنَّه قيل: وأعطاهم زيادة على القاعدين أجراً عظيماً {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَة} [النساء:96] كلُّ واحدٍ منها بدل من أجراً، ويجوز أن ينتصب درجات على المصدر، كقولك: ضربته أسواطاً، بمعنى: ضربات، كأنَّه قيل: وفضلهم تفضيلات، وأجراً على الحال عنها قدمت عليها؛ لأنَّها نكرة، ومغفرة ورحمة، على المصدرِ بإضمار فعلهما.
          وكرَّر سبحانه وتعالى تفضيل المجاهدين وبالغ فيه إجمالاً وتفصيلاً؛ تعظيماً للجهاد وترغيباً فيه، وقيل: الأول: ما خوَّلهم في الدُّنيا من الغنيمة والظَّفر وجميل الذكر، والثَّاني: ما جعل لهم في الآخرة، وقيل: المراد بالدَّرجة الأولى ارتفاع منزلتهم عند الله تعالى، وبالدَّرجات منازلهم في الجنَّة، وقيل: القاعدون الأول هم: الأضرَّاء، والقاعدون الثَّاني هم: الذين أذن لهم في التَّخلف اكتفاءً بغيرهم، وقيل: المجاهدون الأوَّلون من جاهد الكفَّار، والآخرون من جاهد نفسه، وعليه قوله صلعم : ((رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)).
          {وَكَانَ اللهُ غَفُوراً} للفريقين لما عسى أنْ يفرط منهم {رَحِيماً} [النساء:96] بما وعد لهم.