نجاح القاري لصحيح البخاري

باب فضل الجهاد والسير

          ░1▒ (بابُ فَضْلِ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ) بكسر السين المهملة وفتح المثناة التحتية، جمع: سيرة، وهي الطَّريقة. ومنه سيرة العُمَرين؛ أي: طريقتهما، وذكر السِّير هنا؛ لأنَّ الأحكام المذكورة فيه متلقَّاة من سِيَر رسول الله صلعم في مغازيه، وسِيَر أصحابه ♥ .
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) مجرور عطفاً على فضل الجهاد، وهاتان الآيتان في أواخر سورة التَّوبة، إلَّا أنَّ في رواية النَّسفي وابن شبويه وقع هكذا: <{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الآيتين إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:111-112] >. وعند أبي ذرٍّ: <إلى قوله: {وعداً عليه حقاً}، ثمَّ قال: إلى قوله: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}>. / وفي رواية الأصيلي وكريمة سيقت الآيتان بتمامهما، واخترنا ذلك لما فيه من زيادة الفائدة.
          قال تعالى: ({إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}) تمثيل لإثابة الله إيَّاهم الجنَّة على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، والمراد بذلك، والله أعلم، ما وقع في ليلة العقبة من الأنصار.
          قال محمَّد بن كعب القُرَظِيّ وغيره: قال عبدُ الله بن رواحة ☺ لرسول الله صلعم ؛ يعني: ليلة العقبة: اشترط لربِّك ولنفسك ما شئت، فقال: أشترط لربِّي أن تصدِّقوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسِي أن تمنعون منه أنفسكم وأموالكم، قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: الجنَّة، قالوا: ربح البيع لا نُقيل ولا نستقيل، فنزلت: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية؛ يعني: إنَّ الله أمرهم بالجهاد بأموالهم وأنفسهم ليجازيهم بالجنَّة، فعبَّر عنه بالشِّراء لما فيه من عوض ومعوَّض، ولمَّا جوزوا بالجنَّة على ذلك عبَّر عنه بلفظ الشِّراء تجوُّزاً، والباء في بأن للمقابلة، والتَّقدير باستحقاقهم الجنَّة.
          ({يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}) استئناف لبيان ما لأجله الشِّراء، كذا قال القاضي. والأظهر أنَّه لبيان البيع الذي يستدعيه الاشتراء المذكور، كأنَّه قيل: كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنَّة؟ فقيل: يقاتلون في سبيل الله بذلاً منهم لأنفسهم وأموالهم إلى جهة الله سبحانه، وتعريضاً لهما للهلاك.
          وقال الزَّمخشري: فيه معنى الأمر كقوله تعالى: {تُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف:11] وقوله تعالى: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111] لبيان أنَّهم سواء قُتِلوا أو قَتَلوا، أو اجتمع لهم هذا وهذا، فقد وجبت لهم الجنَّة.
          وقرأ حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول والواو لا توجب التَّرتيب، وفعل البعض قد يسند إلى الكلِّ كما في: بنو فلان قتلوا زيداً، والقاتل واحد منهم.
          ({وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا}) مصدر مؤكَّد لما دلَّ عليه الشَّراء، فإنَّه في معنى الوعد، أخبر بأنَّ هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيل الله وعد ثابت ({فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}) / أي: قد أثبته في التَّوراة والإنجيل، كما أثبته في القرآن ({وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}) مبالغةٌ في الإنجاز، وتقريرٌ لكونه حقًّا، وذلك لأنَّ الله لا يخلف الميعاد؛ لأنَّ إخلاف الميعاد قبيح لا يُقدِم عليه الكرام من الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم إليه، فكيف بالغني الذي لا يجوزُ عليه قبيح قط.
          ({فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}) أي: فافرحوا به غاية الفرح، فإنَّه أوجب لكم عظائم المطالب كما قال: ({وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]) أي: فليبشَّر من قام بمقتضى هذا العقد ووفَّى هذا العهد بالفوز العظيم، والنَّعيم الدَّائم المقيم ({التَّائِبُونَ}) رفع على المدح؛ أي: هم التَّائبون من الذُّنوب كلِّها، التَّاركون للفواحش، والمراد بهم المؤمنون المذكورون.
          ويؤيِّده قراءة عبد الله وأبيٍّ ☻ : (▬التائبين↨) بالياء إلى (▬والحافظين↨) نصباً على المدح، ويجوز أن يكون جراً صفة للمؤمنين. ويحتمل أن يكون كما قال الزَّجَّاج: مبتدأ خبره محذوفٌ تقديره: التائبون أيضاً من أهل الجنَّة، وإن لم يجاهدوا كقوله تعالى: {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10]، أو خبره ما بعده؛ أي: التَّائبون عن الكفر في الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال.
          ({الْعَابِدُون} [التوبة:112]) القائمون بعبادة ربِّهم مخلصين له، وقيل: بطول الصَّلاة، وقيل: بطاعة الله ({الْحَامِدُونَ}) لنعمائه خصوصاً لدين الإسلام، وقيل: لِمَا نابهم من السَّرَّاء والضرَّاء، فإن قيل: ما معنى كون الضرَّاء سبباً للحمد؟
          فالجواب: أنَّه باعتبار ما في مقابلتها من الألطاف الإلهيَّة الدُّنيوية والأخرويَّة. قال المولى المحشي سنان: ولك أن تحمله على كون أنفس المضار بحسب ذواتها بمنزلة النِّعم، فليفهم.
          ({السَّائِحُونَ}) أي: الصَّائمون، كذا قال سفيان الثَّوري، عن عاصم أحد القرَّاء السَّبعة، عن ذرٍّ، عن عبد الله بن مسعود ☺، وكذا قال الضَّحاك.
          وقال ابن جرير: حدَّثنا أحمد بن إسحاق: حدَّثنا أبو أحمد: حدَّثنا إبراهيم بن يزيد، عن الوليد بن عبد الله، عن عائشة ♦ قالت: ((سياحة هذه الأمَّة الصِّيام)).
          وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وسفيان بن عيينة وآخرون، وكأنَّهم شبَّهوه بها؛ / لأنَّه يعوق عن الشَّهوات كالسِّياحة، أو لأنه رياضة نفسانيَّة يتوصَّل بها إلى الاطِّلاع على خفايا الملك أو الملكوت.
          وقال الحسن البصري: السَّائحون: الصَّائمون شهر رمضان. وقال أبو عمرو العبدي: السَّائحون: الذين يديمون الصِّيام من المؤمنين، وقد ورد في حديث مرفوعٍ نحو هذا؛ فقال ابن جرير: حدَّثني محمَّد بن عبد الله: حدَّثنا حكيم بن حزام: حدَّثنا سليمان، عن أبي صالح، عن أبي هريرة ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((السَّائحون هم الصَّائمون)).
          وروى أبو داود في «سننه» من حديث أبي أمامة ☺: أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، ائذن لي في السِّياحة، فقال النَّبي صلعم : ((سياحة أمَّتي الجهاد في سبيل الله))، وعن عكرمة أنَّه قال: هم طلبة العلم.
          وقال عبد الرَّحمن بن زيد بن أسلم: هم المهاجرون، رواهما ابنُ أبي حاتم، وليس المراد من السِّياحة ما قد يفهمه من تَعبَّد بِمُجرَّد السِّياحة في الأرض، والتفرُّد في شواهقِ الجبال والكهوف والبراري، فإنَّ هذا ليس بمشروع إلَّا في أيَّام الفتن والزَّلازل في الدِّين.
          ({الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ}) في الصَّلاة؛ أي: الذين يحافظون على الصَّلوات لا سيَّما مع الجماعة ({الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}) بالإيمان والطَّاعات وأعمال الخيرات ({وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ}) الذين ينهون النَّاس عن الشِّرك والمعاصي والأعمال الخبيثة، والعاطف فيه للدَّلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة، كأنَّه قال: الجامعون بين الوصفين، وقيل: إن الواو إنَّما دخلت على الناهين؛ لأن الأمر بالشَّيء نهيٌ عن ضدِّه تبعاً وضمناً لا قصداً، فلو قال: النَّاهون بغير واو، لأشبه أن يريد النَّهي الذي هو تبع، فلمَّا ذكر الواو، بيَّن أنَّ المراد الآمرون قَصْداً والنَّاهون قَصْداً.
          ({وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ}) أي: فيما بيَّنه وعيَّنه من الحقائق والشَّرائع، والواو للتنبيه على أنَّ ما قبله مفصَّل الفضائل، وهذا مجملها، وقيل: إنَّه للتنبيه على أنَّ المعنى: يحفظون حدود الله في جميع الأشياء، فإنَّ في كلِّ شيءٍ حدٌ الله تعالى.
          روي عن خلف بن أيُّوب: أنَّه أمر امرأته في بعض اللَّيل أن تمسك الرَّضاع عن الولد، وقال: قد تمَّت له سنتان، فقيل: لو تَرَكْتَها حتَّى ترضع تلك اللَّيلة، فقال: أين قول الله تعالى: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة:112] ولو لم يذكر الواو لأوهم أنَّ المعنى: يحفظون حدود الله في الأشياء التي تقدَّم ذكرها.
          وقيل: إنَّه للإيذان بأن التِّعداد قد تمَّ بالسَّابع من حيث إنَّ السَّبعة هو العدد التَّام، والثَّامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه، / ولذلك تسمَّى واو الثَّمانية، وقيل: هذا قول ضعيفٌ لا أصل له.
          ({وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112]) يعني بهم هؤلاء الموصوفين بتلك الفضائل ووَضَعَ المؤمنين موضعَ ضميرهم؛ للتَّنبيه على أنَّ إيمانهم دعاهم إلى ذلك، وأنَّ المؤمن الكامل من كان كذلك، وحذف المبشَّر به للتَّعظيم، كأنَّه قيل: وبشِّرهم بما يحلُّ عن إحاطة الأفهام، وتعبير الكلام، والله أعلم بالمرام.
          (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ : الْحُدُودُ: الطَّاعَةُ) وهذا التَّعليق وصله ابنُ أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة، عنه في قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:187] يعني: طاعة الله، وكأنَّه تفسير باللازم؛ لأن من أطاع وقف عند امتثال أمره، واجتناب نهيه.