نجاح القاري لصحيح البخاري

باب فضل رباط يوم في سبيل الله

          ░73▒ (باب فَضْلِ رِبَاطِ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الرِّباط، بالكسر وبالموحدة الخفيفة: ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفَّار لحراسة المسلمين منهم، وهو في الأصل المرابطة؛ أي: ربط النَّفس بالشَّيء، ثمَّ نُقِلَ إلى ملازمة ثَغْرِ العدوِّ؛ لحفظ ثغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين.
          وقال ابنُ قتيبة: أصل الرِّباط والمرابطة: أن يربطَ هؤلاء خيولَهم وهؤلاء خيولهم في الثَّغر كلٌّ يُعِدُّ لصاحبه، وقال ابن التِّين: بشرط أن يكون غَيْرَ الوطن، قاله ابن حبيب عن مالكٍ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّه قد يكون وطنه وينوي بالإقامة فيه دَفْعَ العدوِّ، ومن ثمة اختار كثيرٌ من السَّلف سكنى الثُّغور، فبين المرابطةِ والحراسة عمومٌ وخصوصٌ وجهيٌّ، فافهم.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ ╡) بالجر عطفاً على قوله: ((فضل رباط يومٍ)) ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [آل عمران:200]) وفي بعض النُّسخ: <وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} إلى آخر الآية>.
          قال زيد بن أسلم: {اصْبِرُوا} على الجهاد {وَصَابِرُوا} العدوَّ {وَرَابِطُوا} الخيل على العدو، وعن الحسن البصري: {اصْبِرُوا} على طاعة الله {وَصَابِرُوا} أعداء الله في الجهاد {وَرَابِطُوا} في سبيل الله، وعنه أيضاً: {اصْبِرُوا} على المصائب {وَصَابِرُوا} على الصَّلوات الخمس.
          وعن محمَّد بن كعب: {اصْبِرُوا} على دينكم {وَصَابِرُوا}؛ لانتظار وعدِي الذي وعدتكم عليه / {وَرَابِطُوا} عدوِّي وعدوكم حتَّى يترك دينه لدينكم، واتَّقوني فيما بيني وبينكم لعلَّكم تفلحون غداً إذا لقيتُموني.
          وفي «تفسير ابن كثير»: قال الحسن البصري: أُمِروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم، وهو الإسلام ولا يدعوه لسرَّاء ولا لضرَّاء ولا لشدَّة ولا لرخاء حتَّى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء الذين يحلُّون دينهم.
          وقال ابنُ مردويه: حدَّثنا محمَّد بن أحمد: أنا موسى بن إسحاق: أنا أبو جُحَيفة علي بن يزيد الكوفي: أنا ابن أبي كريمة، عن محمَّد بن يزيد، عن أبي سلمة بن عبد الرَّحمن قال: أقبل أبو هريرة ☺ يوماً فقال: أتدري يا ابن أخي، أتدري فيما أنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} الآية؟ قلت: لا، قال: أما إنَّه لم يكن في زمان النَّبي صلعم غزو يرابطون فيه، ولكنَّها نزلت في قومٍ يعمرون المساجد ويصلُّون الصَّلاة في مواقيتها، ثمَّ يذكرون الله فيها؛ ففيهم أنزلت {اصْبِرُوا} أي: على الصَّلوات الخمس {وَصَابِرُوا} أنفسكم وهواكم {وَرَابِطُوا} في مساجدكم {وَاتَّقُوا} فيما علمكم {الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، وهكذا رواه الحاكم في «مستدركه» أيضاً.
          هذا، قال الحافظ العسقلانيُّ: وحَمْلُ الآية على الأول أظهرُ؛ فعلى تقدير تسليم أنَّه لم يكن في عهده صلعم غزوٌ فيه رباطٌ، فلا يمنع ذلك من الأمر به والتَّرغيب فيه.
          ويحتمل أن يكون المراد كلًّا من الأمرين، أو ما هو أعمُّ من ذلك، وأمَّا التَّقييد باليوم في التَّرجمة، وإطلاقُه في الآية فكأنَّه إشارةٌ إلى أنَّ مطلقها مقيَّد بالحديث؛ فإنَّه يشعر بأنَّ أقلَّ الرِّباط يومٌ؛ لسياقه في مقام المبالغة.