نجاح القاري لصحيح البخاري

باب السفر بالمصاحف إلى أرض العدو

          ░129▒ (بابُ السَّفَرِ بِالْمَصَاحِفِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ) ولفظ كراهية غير موجود إلَّا في رواية المُسْتَمليِّ.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: / المُسْتَملي أثبت في روايته لفظ: كراهية، وبثبوتها يندفع الإشكال الآتي، وأراد بالإشكال الآتي ما ذكره في «التَّنبيه» من قوله: ادَّعى ابن بطال أنَّ ترتيب هذا الباب وقع فيه غلطٌ من الناسخ، وأنَّ الصَّواب أن يقدم حديث مالك قبل قوله: وكذلك يروى عن محمد بن بشر... إلى آخره.
          وقال العينيُّ: إنَّما قال ابن بطال ما قاله بناءً على أنَّ الترجمة: باب السفر بالمصاحف إلى أرض العدوِّ، وكذلك هي عند أكثر الرواة. ووجهُ استشكاله أنَّ قوله: وكذلك يروى عن محمد بن بشر يقتضي تقدُّم شيءٍ حتَّى يشار إليه بقوله: وكذلك، ولم يتقدَّم شيءٌ.
          هذا قال الحافظ العسقلانيُّ: وما ادَّعاه ابن بطال من الغلط مردودٌ؛ لأنَّه أشار بقوله: كذلك إلى لفظ الترجمة كما في رواية المُستمليِّ من لفظ: كراهيَّة السَّفر.
          وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّ ما ادَّعاه ابن بطال بناء على رواية الأكثرين، وهي سقوط لفظ كراهية فإنَّ التَّقدير على رواية الأكثرين: باب السفر بالمصاحف إلى أرض العدو هل يكره أم لا؟ فلا يستقيم قوله: كذلك يروى عن محمد بن بشر، كما لا يخفى على المتأمِّل، فافهم.
          (وَكَذَلِكَ) أي: كالمذكور في الترجمة من كراهية السَّفر بالمصاحف إلى أرض العدو، وقد عرفت أنَّه لا يستقيم إلَّا على رواية المُستمليِّ دون رواية الأكثرين (يُرْوَى) على البناء للمفعول (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ) بكسر الموحدة وسكون المعجمة، أبي عبد الله العبديِّ من عبد القيس الكوفي.
          (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) أي: ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب ♥ (عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) وصل هذا إسحاق بن راهويه في «مسنده» عنه، ولفظه: ((كره رسول الله صلعم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوِّ مخافة أن يناله العدو)).
          وقال الدَّارقطنيُّ والبرقانيُّ: لم يروه بلفظ الكراهة إلَّا محمد بن بشر، ثمَّ المراد بالقرآن المصحف؛ لأنَّ القرآن هو المنزل / على الرسول المكتوب في المصاحف المنقول عنه نقلاً متواتراً بلا شبهة، وهذا لا يمكن السَّفر به، فدلَّ على أنَّ المراد به المصحف المكتوب فيه القرآن، وسيأتي تفصيلٌ في ذلك.
          (وَتَابَعَهُ) أي: تابع محمد بن بشر (ابْنُ إِسْحَاقَ) هو محمَّد بن إسحاق صاحب «المغازي» (عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) وهذه المتابعة بالمعنى؛ لأنَّ أحمد أخرجه من طريقه بلفظ: ((نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدوِّ)).
          والنَّهي يقتضي الكراهة؛ لأنَّه لا ينفكُّ عن كراهة التنزيه، أو التَّحريم، وإنَّما ذكر هذه المتابعة؛ لأنَّ بعضهم زاد في الحديث: ((مخافة أن يناله العدوُّ)). ولم تصحَّ هذه الزيادة عند مالك، ولا عند البخاريِّ مرفوعة.
          وقال المنذريُّ: رواه بعضهم من حديث ابن مهدي والقَعنبيِّ، عن مالك، فأدرج هذه الزِّيادة في الحديث، وقد اختلف على القعنبيِّ في هذه الزيادة؛ مرَّةً بيَّن أنها قول مالك، ومرةً يدرجها في الحديث، ورواه يحيى بن يحيى النيسابوريُّ، عن مالك، فلم يذكر هذه الزيادة.
          وقد رفع هذه الكلمات أيوب واللَّيث والضَّحَّاك بن عثمان الحزامِي، عن نافع، عن ابن عمر.
          وقيل: يحتمل أنَّ مالكاً شكَّ؛ هل هي من قول سيِّدنا رسول الله صلعم أم لا؟ فجعل بتحرِّيه هذه الزيادة من كلامه على التَّفسير، وإلَّا فهي صحيحة من قول سيدنا رسول الله صلعم من رواية غيره.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: لفظ الكراهة تفرَّد به محمد بن بشر، ومتابعة ابن إسحاق له إنَّما هي في أصل الحديث، لكنَّه أفاد أنَّ المراد بالقرآن المصحف لا حامل القرآن.
          (وَقَدْ سَافَرَ النَّبِيُّ صلعم وَأَصْحَابُهُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ) من العلم، ويروى: من التَّعليم (الْقُرْآنَ) أراد البخاريُّ بذلك أنَّ المراد بالنَّهي عن السَّفر بالقرآن: السفر بالمصحف؛ / خشية أن يناله العدو، لا السَّفر بالقرآن نفسه.
          وقد مرَّ أنَّ السَّفر بنفس القرآن لا يمكن، وإنَّما المراد بالقرآن المصحف.
          وقد روي: ((نهى أن يسافر بالمصحف))، رواه ابن مهدي، عن مالك، وعبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر ☺، وقال الإسماعيليُّ: لم يقل أحد: إنَّ من يحسن القرآن لا يغزو العدو في دارهم فما الحاجة إلى هذا الاستدلال؟
          وادَّعى المهلِّب: أنَّ مراد البخاريِّ بذلك تقوية القول بالتَّفرقة بين العسكر الكثير، والطَّائفة القليلة، فيجوز حَمْلُه في تلك دون هذه؛ للأمن في الأولى دون الثانية، وهذا قول أبي حنيفة، ولم يفرِّق مالك بين العسكر الكبير والصَّغير في ذلك، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة ☼ الجواز مطلقاً، والأصحُّ هو الأول. قال ابن سُحنون: قلت لأبي: أجاز بعض العراقيين الغزو بالمصاحف في الجيش الكبير خلاف السَّرية، قال سحنون: لا يجوز ذلك لعموم النَّهي، وقد يناله العدوُّ في غفلةٍ.
          هذا، وقيل: الاستدلال بهذا على الترجمة ضعيفٌ؛ لأنَّها واقعة عينٍ، ولعلَّهم يعلمونه تلقيناً، وهو الغالب حينئذٍ، فعلى هذا يقرأ: ((يعلِّمون)) بالتشديد.
          وقال صاحب «التوضيح»: لكن رأيته في أصل الدِّمياطي: بفتح الياء، وقد يجاب عنه: بما نقل عن المهلَّب من أنَّ الصَّحابة ♥ كان بعضهم يعلم بعضاً؛ لأنَّهم لم يكونوا مستظهرين له، وقد يمكن أن يكون عند بعضهم صحف فيها قرآن يعلِّمون منها.
          فاستدلَّ البخاريُّ أنَّهم في تعلمهم كان فيهم من يتعلَّم بكتابٍ فلمَّا جاز له تعلُّمه في أرض العدوِّ بكتابٍ وبغير كتابٍ، كان فيه إباحة لحمله إلى أرض العدوِّ إذا كان عسكراً مأموناً، فليُتَأمَّل.